لا يزال كتاب "الأمير" لـ نيكولو مكيافيلي (1469 - 1527)، الذي كتبهَ قبل ما يزيد عن 500 عامٍ، يُلهم العديد من السياسيّين في جميع أنحاء العالَم. أدُرج العمل ضمن فهرس الكتب المحظورة لعام 1559، وأُطلق على مؤلّفه لقب "مكيافيلي الشرّير"، وظلّت هذه الصفة تطارده حتّى يومنا هذا، على الرغم من أنَّ قراءته لم تتوقّف، بل راحت تتزايد مع مرور السنين.
لماذا كانت قراءة هذا الفيلسوف والدبلوماسي الإيطالي ملحّة عبر التاريخ؟ على هذا السؤال وغيره يجيب الكاتب الفرنسي، وأستاذ التاريخ في العصور الوسطى في "جامعة باريس الأُولى"، باتريك بوتشيرون، في كتابه "صيف مع مكيافيلي"، الصادر حديثاً عن منشورات "زورزال" الإسبانية.
يَعتبر بوتشيرون أنَّ قراءة الكاتب الإيطالي كانت ملحّة ولا تزال حتى يومنا، لأنّ مكيافيلي كان مُؤسِّس الفلسفة السياسية الحديثة في أوروبا من ناحية، ولأنّه كان المُنظّر السياسي الأوّل في عالَم محبط، حيث كان الفرد بمفرده، دون الله، أو أي دافع أو ذريعة أُخرى، إلّا ما تقّدمه له ذاتيته الخاصّة. هكذا تحرّر الفكر السياسي معه من السلطة الدينية، ومن فكرة القرون الوسطى عن معنى الإنسان، وهذا ما يجعله قريباً من هموم الناس في العالم الحديث.
يحاول الكتاب رسم صورة جديدة لمكيافيلي مختلفة عن المعروفة عنه
ويحاول الباحث الفرنسي في صفحات كتابه أن يُقدّم نظرة مختلفة عن صاحب كتاب "الأمير"، تُضفي طابعاً إنسانياً على واحدٍ من أكثر الأسماء المكروهة في التاريخ. ويبدأ باتريك من فلورنسا نفسها، حيث يتتبّع مسيرة ذلك الطفل الذي وُلد في منزل عائلة متواضعة تعتمد بالمقام الأوّل على الدخل الوارد من الأراضي التي تملكها، وصولاً إلى اللحظات الأخيرة من حياته.
ولا يكتفي الباحث الفرنسي بتتبُّع مسيرة حياة مكيافيلي، بل يرصد أيضاً كيفية شحذ أسلوبه السياسي. "بالنسبة إلى مكيافيلي، كلُّ شيء كان جيّداً ما دام المرءُ قادراً على ممارسة فنّ الكلمة الصحيحة. لقد فضّل الحُبّ، لكن لا بدَّ من استخدام القوة، أحياناً"، يقول الباحث الفرنسي.
ويروي أستاذ التاريخ في العصور الوسطى أنَّ حظ مكيافيلي السياسي كان مخيّباً للآمال، بسبب رجال السياسة الذين التقى بهم في طريقه. لهذا السبب كان عليه أن يكتب عمله الأهمّ "الأمير". وقد حاول في الكتاب أن يفصل العمل السياسي عن الأخلاق العامّة. ولكنّ السؤال الرئيسي الذي علينا أن نعرف كيف نجيب عنه هو: ليس لماذا، ولكن لمَن كتب مكيافيلي؟ للأمراء أم لمن يريد مقاومتهم؟
وفي نهاية الكتاب، يحاول الباحث أن يرسم صورة جديدة لمكيافيلي مختلفة عن المعروفة عنه، إذ يقارنه مع السياسيّين اليوم، ويوضّح في هذا الإطار أن ما يميّزه عن سياسيّي عصرنا هو أنه لم يكن على رأس حزب، أو ممثّلاً لطبقة اجتماعية أو عرق أو شيء من هذا القبيل، بل كتب كلّ ما كتبه من معايير سياسية محضة، ولهذا يمكن قراءة فلسفة مكيافيلي السياسية بوصفها أفكاراً معادية للتصريحات الحزبية.