"طفلة الرعد" (2023) الصادرة عن دار "الآداب" اللبنانية، هي الرواية الثانية لغادة الخوري. الرّواية التي تحمل هذا العنوان تبدأ، من العبارة الأولى، بذكر الرعد. بطلتها التي ستُسمّى بهيلانة "لا تتذكّر متى التحمت روحها بالرعد"، "معه فقط نشعر بالقوة… بالسلطة"، و"حينها فقط تخرج وتلعب، فأطفال الرعد يفهمون لغتها... فجميع البشر، باستثنائها هي، يهابون الأصوات التي لا وجه لها".
لن نتأخر حتى نفهم صلة هيلانة بالرعد، والأصوات التي تصدر عن لا مكان، إنّها تأتأتها الملازمة منذ طفولتها. هذه التأتأة هي تقريباً عمود حياتها وقضية وجودها. ليست أيّة تأتأة، فحين تأتي هيلانة بمتأتئ آخر، هو الممرّض، يتجلّى الفرق بين علاقتين بالتأتأة، وتقديرين لها. يمكننا القول ونحن نقرأ "طفلة الرعد"، إنَّ الرواية هي، مِن جانب منها، قصة هذه التأتأة. لا نفتأ نسمع هيلانة وهي تتعثر في نطقها، وتعلق بالحروف وتراكمها بعضها على بعض. نحن هكذا أمام امرأة تتأتئ طوال الوقت، وتصارع تأتأتها طوال الوقت. التأتأة هي هكذا أكثر من عاهة، إنّها جوهر وجود، وخليّة أولى، واسم آخر، وكنية ثانية.
تدور أحداث الرواية في الريف، بخلاف روايات الحرب الأهلية
يمكننا القول انَّ التأتأة تكاد تكون سبب وجود، وميتافيزياء سابقة عليه، ومعنى مضطرب له. الرواية قائمة على هذا العنصر، بحيث نشعر بأنَّ الرعد، لم يكن ليدوي على هذا النحو، إلّا بوصفهِ صوتاً أول، وصوتاً شاملاً ونهائياً. إنّه الصوتُ الأب، الصوت الأسبق، الصوت الأعمق. نشعر بأن هذا الرعد يدوي داخل هيلانة، إنّه صوتها الضائع والمفقود، صوت وجودها وحياتها. لذا ما إن نسمع تأتأة هيلانة، وهي تتكرّر في كلّ كلام، حتّى نشعر بأنّها بلا صوت تقريباً، وبأنّ صوتها الأصلي يقع خارجها، ويدوي حولها. التأتأة هكذا تكاد تكون مسألة كونية، أو سؤالاً ميتافيزيقياً، والرواية لا تفتأ تستعيده وتدور حوله.
هكذا تتعدّد تفاسيرها، بل أشكالها ومعانيها، لا نلبث أن نشعر بأنّها لا تعني تعثراً بالكلام والنطق فحسب، بل هي، من ناحية أخرى، تغطية على الوقائع والأشياء. هيلانة تتأتئ، لكن تأتأتها هي أيضاً ستار لوقائع يعرفها الكل. تعثّرها بالنطق يكاد يكون موازياً لهذا الجهل. هي إذ تتأتئ يفوتها لذلك، وبسببه، أن تعرف أنَّ وردية؛ أخت زوجها، ماتت مُحترقة. كما يفوتها أن تفسّر غرق أمها. كما يفوتها أن تعرف أنَّ أخاها أردى خطأً بالرصاص صديقه. كلُّ هذه وقائع معروفة، لكن تأتأة هيلانة هي أيضاً عمى عن الحوادث وكتمانها. التأتأة هي هكذا الصمت، السكون، الكتمان. كما أنّها، كما في آخر الرواية، تبدو ذات منشأ سيكولوجي هو الشعور الهائل بالذنب.
رواية "طفلة الرعد" هي بخلاف روايات الحرب الأهلية التي تدور في المدن، رواية ريف. بل هي، من ناحية أخرى، تكاد تكون أرشيفاً للحياة الريفية، إلى حدٍّ يبقى فيه من هذه الحياة ما يتجاوز وقته. الحياة هنا ريفية، لا نزال نرى فيها آباراً وبغالاً، لكنّنا أيضاً قبيل الحرب الأهلية، التي تحدثُ بمقدّمات غير صارخة وغير مدوية. إنها ما بين الضياع من اختلافات طائفية، وما في داخلها أيضاً من نزاعات موروثة، وما بدأ يتطرّق إليها من عقائد وإيديولوجيات، "الحزب السوري القومي" في صدارتها. الحرب الأهلية التي تصل إليها الرواية، تبدو هي الأخرى موازية لتأتأة هيلانة. إنّها، بجانب آخر، محفوفة بالصمت والتعثّر.
لا نفهم لذلك ماذا جرى لصالح زوج هيلانة الذي اختفى فجأةً، ولا نعرف فيما كان ذلك، وكيف جرى، وإلى أين انتهى. الحرب الأهلية لا نكاد نشعر بمقدماتها، إلّا في جانب آخر منها بعيد ومجاور. في احتراق وردية، ومقتل يونس برصاص فريد، وغرق والدة هيلانة. ما يبدو صارخاً ومدوياً، وكأنّ الحرب الأهلية خرجت منه، كأنه الرعد الحقيقي الذي كانت الحرب دويّه وانفجاره. كأنَّ الحرب الأهلية هي، على نحوٍّ ما، تولّدت من تأتأة هيلانة. كأنّها الرعد الذي انفجر في داخلها، وفي نفسها.
* شاعر وروائي من لبنان