عبد اللطيف اللّعبي: الجسد وما بعده

03 نوفمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- "فواكه الجسد" لعبد اللطيف اللعبي يعكس الجسد ككون متكامل، حيث يتناول الرغبات والتناقضات بين العلو والانحدار، ويعتبر الجسد استعارة لعالم متعدد الأبعاد.
- لغة الديوان تأسيسية، تبتكر لغة مزدوجة تعبر عن الهوية، وتجمع بين المتناقضات مثل الحب والشبق، متجاوزة الحدود التقليدية لتصبح فلسفة بحد ذاتها.
- يتكون الديوان من مقاطع صغيرة تشبه الهايكو، حيث تتداخل عناصر الجسد والرغبة، مع استعارات تعكس فلسفة اللعبي في الشعر كتجربة شعرية وفلسفية متكاملة.

"فواكه الجسد" (مرفأ، 2024) عنوانٌ يوازي من قريبٍ وبعيد "فصول الجسد" و"أوراق الجسد". الجسدُ هنا قبالة العالم، إنَّه قادر على أن يكونَ الكونَ في الوقت الَّذي يظلُّ فيه جسداً. إنّه الجسدُ بما يعلقُ بهِ من رغبةٍ وشهوة، بلْ وبما يعلق به من لُعابٍ وعرق. إنَّه أيضاً برغباته العاصفة، لكنْ في حضيضه وانحداره وانقلابه على نفسه، وعلى ما فيه من عرف و"لحظة مثلى" و"زهرة جوهرية"، أي على ما فيه من كلمة ولغة بالتالي، وعلى ما ينشقُّ عنه من اختلاجات وهبوبات وأرياح، لكن هذه أيضاً لعنته.

إنها أيضاً الملكةُ الكامنةُ فيه، والتي تحيلهُ استعارةً، بل استعارات متوالية لعالم، متعدِّد متفاعِل متفارِق متفاوِتٍ متضَاد، شعريَّة عبد اللطيف اللّعبي قد تكون، في هذه الديوان، هنا. شعريَّته هي في هذا الانزياح المستمرّ، في تأسيسه للغةٍ قادرة، في كلِّ استشرافاتها وإطلالاتها وتماساتها وانعقاداتها، على أن تكون، في الوقت ذاته، شيئَها وآخرَها. على أن تكونَ الجسدَ لا تغادره، ولا تنفكّ عنه، لكن مع استدعاءات من محيطٍ يتحوّلُ، في اندفاعه وتوقّفه، محيطاً، بل يقدر على أن يوازن بين داخلٍ وخارج، على أن يماهي بين ما هو فوق وما هو تحت، على أن يقول الشيء نفسه بلغتين، أو بالأحرى يجدُ لغة لاثنين وشيئين، بدون أن يفعل سوى تلك اللَّمسة السِّحريَّة، سوى استدعاء الهويَّة الجامعة والتعريف الواحد.

يمكننا أن نقول بهذا الصَّدد إنَّ لغة عبد اللطيف اللّعبي هنا لغة تأسيسيَّة، إنَّ ما نتلمَّحه، من بعيد، هو هذه الملكة على اجتراح ما يمكنُ اعتباره أصلاً ثانياً، ما يُمكن اعتباره هويَّة مزدوجة، ما تمكن تسميته بحسب النصوص "عرف اللحظة"، "قبضة الفردوس، روح الآخر"، "الغزال غير المنتظر"، "جناح يحترق بحق"، "الرغبة إلى حدِّ الإيلام". في كلِّ هذه الشَّذرات نجد قابليَّة الكلام لأن يوازن ويجمع، قابليَّته ليخترعَ هوية وتعريفاً صادرين عن قدرٍ من التناسخ، قدر من استلهام نصّ كامل وراء الكلمات، استشراف هذا النصّ وهو يتوقَّد ويستشفُّ ويلمّح، أن يقول الشيء وعينه. هذا التبادل السِّحري بين الأشياء، وهذه القدرة على استدعاء شرارةٍ كونيَّة لكلِّ لحظة، على قول في الوقت ذاته، وبسلاسة وطلاقة، ما فوق وما تحت، ما يعلو وما يسفل، ما يصعدُ وما ينخفض.

يمكننا أن نقول إنّ لغة اللّعبي هنا لغة تأسيسيّة

يمكننا هكذا أن نتكلّم عن فلسفة، كما يمكنُ للشِّعر أن يكون فلسفة، كما هو الإضمار الفلسفي الذي يجعلُ من الشِّعر نصفَ فلسفة، أو يجعل منه فكراً للفكر. فلسفة أُخرى لها ما يصدر عن بؤرة واحدة، ما يتراشقُ وينكسر ويتعاركُ ويصطرعُ مع بقائه شعراً. بل هو الفلسفة من جهة أُخرى، دورانٌ حول، وسؤالٌ من تحت، بل وبؤرةٌ ثانية وصدورٌ بنسق خاص، بل وقراءة تتبعثر وتولدُ من شتاتها، ولااستوائها ونقص اكتمالها، وانزياحاتها، فكرها هي أو طريقتها في الفكر.

لا نبتعد عن الفكر إذا نحنُ تأمَّلنا في هذا الجمع، وفي العبارة الواحدة، بين الذرى والحضيض، جمعٌ يصدرُ عن القِوام ذاته. الذرى والحضيض يتداعيان في بعضهما بعضاً، ليس من فرق في التراتب ليس سوى ما يسميه اللّعبي "أعرف أنّني ناسخ مقتدر"، هناك النسخ والطباعة، لكن الحضيض يستثير أكثر الشعر: "لن تظفر/ من الباب المفضي إلى اللغة/ إلّا بالثقب الأعمى/ لقفله"، "وكنّا مِدادها البشري/ عرق دمع/ ماء حي".

ثمّة أيضاً حضيض اللغة: "بدون زلّات اللسان/ وبدون موسيقى أخّاذة/ مآل النحو المزبلة". هناك شبهة السقوط إلى الحضيض، لكن ما يجمع الاثنين الذروة والحضيض، هو فعلُ الحب الذي ليس سوى "الالتهام الجماعي" "استسلمي لنهمكِ الكلّي/ كلي من الرعد/ اشربي من العاصفة". الأشياء معجونة بنقائضها، تصدر عن أضدادها، لأنَّ الشبق، الجماع، الاختراع اللغوي ليست إلّا "لكي ننحت هذا الوثن ونأكله"، ليست سوى "لبؤبؤ ذاب في البؤبؤ… لنأكل بعضنا البعض بالأعين فقط".

هذا الالتهام الكوني هو الحب، هو الجسد، هو بالدرجة نفسها اللُّغة، ولن يكون الشِّعر عند ذلك سواه، إنّه خروج الأشياء من أضدادها، ليس هذا وحده، بل تحوّلها نفسه إلى نقائضها. ليس الانزياح ‪سوى فصل من هذا الالتهام الذي لا نعرف أوّله "مَنْ يمتصّ من، الزهرة أم النحلة"، "الرجل ملقى الآن / بجانب المرأة/ كشجرة/ اقتلعت من الجذور" لن يكون الاقتلاع شيئاً آخر.

النص واحد، مقاطع صغيرة لا تحمل عنواناً، "فواكه الجسد" قد تكون "فصول الجسد"، وحين نرى النص مجزّءاً إلى أربعة، قد نفكّر عند ذلك بهايكو خاص. لا يسعنا أن نعرفَ كلّ جزء ونجد له موضوعه، لكن هناك الجسد والرغبة والكلمة، وهناك أيضاً ذلك الالتهام الجامع. ليست فصول السنة لكن فصول الجسد تستدعيها أيضاً: "أيها الطائر الشبق/ انقر خوخة الصباح... احتفظ منها بقسط للمساء... يا لك من مغرورة، يا لكِ من شحيحة". هنا نصادف خوخة الصباح وخوخة المساء في المغرورة والشحيحة. هذا الانزياح من الخوخة إلى المغرورة والشحيحة يجعل من القصيدة أو المقطع هايكو خاصّاً باللّعبي. ربما لو أجرينا ذلك على ما في النصّ أو النصوص من مقابلات، قد نصلُ إلى استشراف آخر، قد تكون القصّة في مكان غيره.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون