استمع إلى الملخص
- المفارقة تكمن في أن الظروف القمعية التي دفعت فياض للهرب لم تتغير، مما يجعل العودة خياراً انتحارياً، ويعكس واقعاً عربياً ثابتاً حيث النفي والطرد جزء من الحياة.
- تثير الرواية تساؤلات حول خاتمتها غير المنطقية، حيث تدين القمع وتبرز تجربة المنفى، معبرة عن رغبة العودة رغم استمرار أسباب الرحيل.
يختتم حنا مينه روايته "الثلج يأتي من النافذة" بوقوف فياض، بطل الرواية الذي اضطرّ لمغادرة بلده خوفاً من الاعتقال، أو التعذيب، أو السجن الطويل، أو التصفية، والبقاء بعيداً عنه بضع سنوات، في لبنان، حيث عمل مُتخفّياً بأسماء عديدة، في انتظار لحظة العودة.
ولكن فياض يقرّر أخيراً العودة إلى سورية، بسبب إحساسه بأنّ حياته باتت بلا معنى، وأنّ شعوره بالبرد لا يأتي من النافذة المفتوحة، حين كانت تُثلج خارجاً، فـ"البرد ليس من الثلج، البرد ليس من الثلج"، يردّد فياض لنفسه، ولنا نحن القرّاء، سبع مرّات هذه الجملة، بلا توقّف، كي يُوصل إلينا الرسالة التي تقول إنّ البرد لم يعد برداً تسبّبه الأجواء الباردة، بل هو برد رمزيٌّ ناجمٌ عن الغربة التي طالت بالمناضل الفار من بلاده.
وما هو الحل إذاً؟ إنّه العودة، ومنذ أن تطأ قدماه أرض بلاده، يبدأ البطل في إطلاق ما يُشبه النشيد قائلاً: سلاماً يا أرضي، ثمّ ينتهي إلى القول، مُقدّماً وعداً قاطعاً لأرضه، ومدينته دمشق: أبداً لن أهرب بعد الآن. أبداً لن أهرب بعد الآن.
كأنّ الزمن العربي لم يزد عن أن يكون زمن النفي والطّرد والمنفيّين
المفارقة التي وضعها الروائي في هذه النهاية الرومانسية هي أنّ الأسباب التي أدّت بفياض إلى الهرب من بلاده لم تتغيّر، لا في الزمن الذي هرب فيه من البلاد، أي زمن أحداث الرواية، في الخمسينيات من القرن الماضي، حين قرّر أن يعود إلى بلاده مصحوباً بذلك النشيد الغزلي، ولا في الزمن الذي نُشرت فيه الرواية، أي عام 1969.
إنّ خيار العودة في هذه الحالة انتحاريٌّ، خاصّة أنّ الزمن العربي التالي، لم يُفض بتاتاً إلّا إلى مزيد من الأسباب التي أرغمت الآلاف في البداية، ثم مئات الآلاف، ثم الملايين من العرب، على مغادرة بلدانهم، هرباً من الأسباب ذاتها التي أرغمت فياض في رواية حنا مينه على الهرب. كأنّ الزمن العربي، في السنوات الستّين الماضية، بل في كلّ السنوات التي أعقبت استقلال دولنا، لم يزد عن أن يكون زمن النفي والطرد والمنفيّين.
المفارقة الأُخرى هي أنّ الروائي يضعنا أمام سؤال محيّر: هل كتبَ الرواية من أجل هذه الخاتمة؟ هذا إجراءٌ غير منطقي، فالرواية بمجملها تُدين القمع، والمطاردة البوليسية، بحيث تبدو الخاتمة مقحمةً في ذيلها بلا سبب منطقي مقنع غير حنين البطل الروائي؛ وهو حنينٌ مجرّب وإنساني إلى حدّ بعيد، وغير إرادة الكاتب.
يمتلئ المنفى العالمي بأسماء الكتّاب الذين طُردوا من بلادهم، منذ أيام الشاعر الروماني أوفيد الذي نفاه الإمبراطور، إلى اليوم، وربّما كان القرن العشرون الشاهد الأكبر على موجات هائلة من المنفيّين في معظم بلدان العالم، حتّى أطلق عليه إدوارد سعيد في كتابه "تأمّلات في المنفى" اسم "عصر اللاجئ"، حيث يقول: "إنّه الشرخ المفروض الذي لا التئام له بين كائن بشري ومكانه الأصلي".
ولعلّ لدى كلّ منفيّ أو لاجئ الرغبة في القيام بعودة مماثلة لعودة فياض، لولا ما يتجاهله فياض، أو الروائي الذي كتب رواية "الثلج يأتي من النافذة"، وهو أسباب النفي التي لا تني تتكرّر في كلّ هذا العالم العجيب.
* روائي من سورية