مؤخراً، صدر عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب" كتاب "عباس محمود العقاد: مقالات نادرة عن الفنون الجميلة" الذي جمع مادّته وحقّقها علاء عبد الحميد، وهي مغامرة بحثية تتيح أن نفهم بعض ما خفي من مدوّنة العقّاد من جهة، ومن تاريخ الفن خلال المرحلة التي عاصرها من جهة أُخرى.
في حديث إلى "العربي الجديد"، يشير الباحث المصري إلى أنّ فكرة هذا الكتاب جاءت "عن طريق المصادفة، فمنذ خمسة سنوات تقريباً بدأ اهتمامي بالبحث والتنقيب فى أصول وتاريخ المصطلحات الفنية المتخصّصة فى الفنون البصرية فى سياقها المصري، والملاحظ أن اسم المجال نفسه قد تطوّر وتغيّر، فبدأ بالفنون الجميلة ثم الفنون التشكيلية فالفنون البصرية. ولتتبّع تاريخ المصطلحات الفنية المتخصّصة فى سياقها المصري، بدأت في قراءة وجمع الكتابات والمقالات المتعلقة بالفنون الجميلة فى مصر منذ بداياتها، وذلك لمقارنة واستكشاف بدايات المصطلحات المستخدمة فى هذه النصوص".
يتابع: "بذلك بدأت أكتشف مقالات إبراهيم عبد القادر المازني ومي زيادة ومحمد حسين هيكل وعباس محمود العقاد ومحمود عزمي وتوفيق حبيب ومحمد فهمي وسلامة موسى وأحمد يوسف أحمد وآخرين. كما سبقهم في ذلك سليم حداد صاحب أول مقال نقدي في مجلة المقتطف بعدد آذار/ مارس 1897".
يشير عبد الحميد إلى أن العقاد كان أكثر هؤلاء إنتاجاً، وهو يقدّم هنا إحصائية مفاده أن صاحب "العبقريات الإسلامية" وضع ما يقارب الستة آلاف مقالة. يقول عبد الحميد: "اتسعت كتابات العقاد لمجالات كثيرة جعلت رحلته الفكرية تتسم بالموسوعية، فقد كتب في الأدب والشعر والنقد والسياسة والدين والتاريخ والفلسفة وكتب عن المرأة وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الجمال. وكان الأكثر إنتاجاً في ما يتعلق بالمقالات المرتبطة بالفنون الجميلة، كما أن الامتداد الزمني لهذه المقالات يبدأ تقريباً منذ العشرية الثانية من القرن الماضي وحتى رحيل العقاد عام 1964. ومن هنا قرّرتُ أن أؤجل البحث الأصليّ المتعلق بتاريخ تطوّر المصطلحات، وأن أبدأ بجمع هذه المقالات لإعادة إتاحتها وطرحها، وبدأت بالعقاد نظراً لغزارة إنتاجه".
كتب العقاد 5877 مقالاً وفقاً لموسوعة أعلام الأدب المعاصر في مصر
يرى عبد الحميد أن "مقالات العقاد عن الفنون الجميلة لا تختلف كثيراً عن بقية إنتاجه الفكري، فقد كان يتسم بالتفكير الشمولي الذى يطبّقه على كافة فروع المعرفة التي يتصدى لها فى كتاباته. أما المقالات التي نشرتها فى الكتاب فاخترت نشرها من بين تسعين مقالة حصرتها للعقاد مرتبطة بالفنون الجميلة، فقط، لندرتها، ولجأت لهذا المعيار عندما أدركت صعوبة نشر تسعين مقالة فى كتاب واحد، فلجأت إلى إعادة نشر الأشد ندرة وليس الأكثر أهمية، لتأكيد مفهوم الإتاحة. وعوّضت ذلك بأن أعددت ونشرت فى ذيل الكتاب فهرساً ببليوغرافياً لكتابات عباس محمود العقاد عن الفنون الجميلة، به أسماء جميع مقالاته التسعين المرتبطة بالفنون الجميلة وأين نُشرت وأين أعيد نشرها فى حالة إذا ما كانت نشرت مرة أخرى في كتاب أو دورية في وقت لاحق، وذلك لتسهيل الوصول لهذه الكتابات للمهتمين".
سألنا الباحث المصري إن كان قد وجد صعوبات في العثور على هذه المقالات، فأجاب: "واجهتني في بداية مراحل الإعداد لهذا الكتاب صعوبة حصر وتجميع الكتابات نظراً لكثرتها وتنوّع موضوعاتها؛ فقد كتب العقاد 5877 مقالاً وفقاً لموسوعة أعلام الأدب المعاصر في مصر. وترك أكثر من مائة كتاب من تأليفه فى مجالات متعددة، منها كُتب جَمعت بعض مقالاته أشرف هو على طباعتها وإصدارها، وبعضها صدرت بعد وفاته. ولكن كتاباته عن الفنون الجميلة ظلّت متناثرة وغير مُجَمَّعة ومنها الكثير النادر الذي لم يعد طبعه مرّة أُخرى".
يضيف: "من أكثر الصعوبات التي قابلتني هي أن أغلب الكتب التي جَمعت مقالاته لم تكن تحتوي على تاريخ نشر المقال الأصلي ومكان نشره في المرة الأولى. فأهمية تحديد تاريخ ومكان نشر أي مقالة للمرة الأولى يجعل قارئها أو دارسها قادراً على وضعها في سياقها الصحيح ومراعاة الظروف الزمانية والمكانية والسياسية والاقتصادية والإتجاهات الفنية المعاصرة لوقت كتابة كل مقال، ولذلك قمت بمراجعة مجلدين؛ الجزء الخامس -الخاص بعباس محمود العقاد- من سلسلة "أعلام الأدب المعاصر في مصر" لـ حمدي السكوت، والنشرة البيبلوغرافية لآثار العقاد الفكرية، التى أعدّها عبد الستار الحلوجي. وذلك لحصر عناوين مقالاته المتعلّقة بالفنون الجميلة وأماكن وتواريخ نشرها، ومن ثم الوصول لها في الأرشيفات المتعددة. ومع ذلك اكتشفت عدة مقالات له لم يتم إدراجها بهذه الموسوعات الببليوغرافية".
أغلب الكتب التي جمعت مقالاته لم تحتو على تاريخ نشر المقال الأصلي
استغرقت رحلة تجميع مادة الكتاب قرابة الأربع سنوات، بحسب عبد الحميد، وهو يشير إلى أنه تردّد بين زيارات الأرشيفات المتعددة والمكتبات العامة والخاصة، ناهيك عن تجميع مؤلفات وكتب العقاد وكتب عنه من أسوار بيع الكتب المستعملة والقديمة والنادرة كسور الأزبكية وسور أبو الريش فى القاهرة وسور النبي دانيال في الإسكندرية. كما أنه يلفت إلى أن "هناك صوراً أرشيفية مرتبطة ببعض المقالات ما زالت مفقودة أو يصعب الوصول إليها، وهو ما أحاول الوصول إليه الآن".
هذا النوع من الكتب التي تعود إلى مدونة مجهولة أو شبه مجهولة لكاتب عربي قليلة في ثقافتنا. يفسّر عبد الحميد ذلك بالقول: "أعتقد أن السبب الرئيسي هو صعوبة البحث والتنقيب لجمع المواد الأرشيفية أو الإرث الفكري لمعظم الكُتّاب والمفكّرين، كما قد يحتاج الأمر في أغلب الأبحاث من هذا النوع إلى سنوات طويلة وربما لا يصل الباحث بعدها إلّا إلى بعض المواد القليلة. في مصر لنا حظ وجود أرشيف وطنيّ في دار الكتب، يمكنه مساعدة الباحثين على الأقل فى 70 % في مجهوداتهم البحثية".
سألنا عبد الحمدي إن كانت لديه مشاريع أخرى ضمن التوجه ذاته، فأجاب: "نعم، فمشروع جمع وتحقيق ودراسة كتابات عباس محمود العقاد عن الفنون الجميلة جاء كخطوة أولى لجمع وتحقيق إتاحة أغلب الكتابات المتعلقة بالفنون الجميلة في تاريخ مصر الحديث، وذلك للوقوف على تطوّرات الحركة الفنية في مصر والحركة النقدية وتفاعلاتهما سوياً، وأيضاً لتساعدنا إعادة قراءة هذا الإرث المختفي على فهم أوسع أوضح لواقع حركتنا الفنية المعاصرة ومستقبلها كذلك".
ومن هؤلاء الذين يجدر الاعتناء بإتاحة مدوّناتهم، يذكر علاء عبد الحميد بعض الأسماء التي تتقاطع مع اهتماماته في الكتابة عن الفنون الجميلة فى مصر تحديداً، مثل: الفنان والناقد والمؤرّخ محمد صدقي الجباخنجي، ومي زيادة، والشاعر أحمد راسم، والفنان والكاتب محمد يوسف همام، وصديق العقّاد إبراهيم عبد القادر المازني.