دخلنا منذ سنتين في سلسة مئويات لكياناتٍ برزت في بلاد الشام، منها ما أخفق، ومنها ما استمرّ بين نجاح وإخفاق. ومن ذلك "المملكة العربية السورية" التي أعلنت استقلالها في الثامن من آذار/مارس 1920 وانهارت بعد معركة ميسلون في 24 تمّوز/ يوليو 1920، لتفسح المجال أمام كيانات جديدة مثل "دولة لبنان الكبير" (1920) و"إمارة شرق الأردن" (1921) و"الاتحاد السوري" (1922) وغيرها. ولكنْ، مع الكتاب الجديد للمؤرّخ الأردني المعروف علي مَحافظة، يتّضح أن المُعارضَة العربية أيضاً استحقّت مئويّتها واستحقّت كتاباً مرجعيّاً يؤرخ لها.
كتاب المؤرّخ المخضرم "المُعارَضة السياسية الأردنية في مئة عام، 1921-2021" (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، 2021)، يتوّج مسيرة بحثية وأكاديمية أثمرت أكثر من خمسين مؤلّفاً تغطّي التاريخ الأردني والعربي الحديث وحتى الشرق أوسطي (بما فيه إيران وتركيا).
تخرّج محافظة من قسم التاريخ في "جامعة دمشق"، وتابع دراسته العليا في باريس، وكان من مؤسّسي قسم التاريخ في "الجامعة الأردنية" الوليدة في عام 1962. وقد أفادته خبرته الدبلوماسية في الدول الأوربية باكتشاف ما في دُور الأرشيف الأوروبية (الألمانية والفرنسية خصوصاً) من وثائق عن التاريخ العربي الحديث، وظّفها في كتبه العديدة.
تخصيص كتابٍ لمئوية مُعارَضة عربية يستحقّ الاحتفاء به
وعلى الرغم من التقدير الذي حظي به في بلاده (ومن ذلك رئاسته "جامعة مؤتة" و"جامعة اليرموك" لسنوات)، إلّا أن محافظة بقي مؤرّخاً يسعى إلى الجديد، وليس إلى منصب أعلى. ولذلك، عندما أصدر في 2001 كتابه "الديمقراطية المقيّدة: حالة الأردن 1989-1999" عن تجربة المعارضة في الأردن، لم يتوقّع أن يُمنع الكتاب في بلاده مع التحوّل الديمقراطي الجديد. ومع أنه لم يعد رئيساً لجامعةٍ بعد هذا الكتاب، بل أستاذَ شرف مدى الحياة في "الجامعة الأردنية"، إلّا أن السنوات التالية له كانت هي الأغنى في ما ألّفه ونشره، وصولاً إلى الكتاب الجديد الذي لم يُمنع هذه المرّة، مع أنه تطويرٌ وتحديث لكتابه "الديمقراطية المقيّدة".
في مقدّمة الكتاب، ينطلق المؤلّف من أن "المعارضة السياسية كانت مكوّناً أساسيّاً من مكوّنات الحياة السياسية الأردنية"، و"كان لها دور جوهري في تطور هذه الحياة وفي تحقيق العديد من المطالب الشعبية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ساهمت في نهضة الأردن". ولكن مع ذلك، "تعرّضت هذه المعارضة السياسية للنقد والتجريح والاتّهام بالعمالة للخارج والخيانة الوطنية... وتعرّض قادتها ونشطاؤها للنفي والإبعاد والاعتقال والسجن والتعذيب، الذي وصل في بعض الأحيان إلى الموت". ولذلك، يرى المؤلف أنّه مع الاحتفال بمؤية الدولة الأردنية (في 2021)، يجدر أيضاً التعرّف على الجانب الآخر (المُعارَضة السياسية) بـ"روح موضوعية ونزعة عقلانية وتوجّه نقدي، حتى ندرك كيف تطوّرت الحياة السياسية في هذا الوطن الملاصق لفلسطين".
في الفصول الأولى للكتاب، يميّز المؤلّف بين "التمرّد العشائري على السلطة المركزية" وبين "المعارضة الوطنية" التي تشكّلت في الإمارة الجديدة تحت الانتداب البريطاني. وفي الواقع، يوضّح محافظة الظروف التي حكمت هذه التطوّرات نتيجةً لعوامل ثلاثة: الموقع، والأمير، والانتداب البريطاني. في ما يتعلّق بالموقع، فقد شملت الإمارة الجديدة، التي تشكّلت في 1921، مناطق واسعة لم تكن تعرف العشائر فيها الخضوعَ لسلطة مركزية، ولذلك تميّزت البدايات بتمرّدات عشائرية على سلطة الأمير عبد الله بن الحسين، الذي جاء من الحجاز لـ"تحرير سورية من الاستعمار الفرنسي"، ولكنّه ارتضى ــ بعد لقائه المشهور مع وزير المستعمرات البريطانية في ذلك الوقت ونستون تشرشل، في القدس، خلال آذار/ مارس 1921 ــ أن يكون على رأس إمارة جديدة تحت الانتداب البريطاني.
وفي ما يتعلّق بالأمير عبد الله، فقد كان والده الشريف حسين يحكم الحجاز بطريقة تقليدية تعتبر القيود المفروضة على سلطة الملك والصيغة الدستورية الحديثة "أمراً مُنافياً للتعاليم الدينية التي يجب أن تبقى دستوراً للبلاد"، وهو ما انعكس على حكمه في السنوات الأولى في الإمارة الجديدة. فعندما برزت معارضة وطنية ديمقراطية لحُكم الأمير ولخضوعه إلى إملاءات الانتداب البريطاني، جاء وفد من زعماء هذه المعارضة إلى دار الحكومة في 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1926، وطالب رئيس الحكومة (رئيس النظّار) حسن خالد بـ"العمل على وضع دستور للبلاد والإسراع في تأسيس مجلس نيابي منتخب"، فأكّد لهم خالد أن "الحكومة عاملة على وضع دستور صالح للبلاد والتمهيد لانتخابات عامّة من أجل قيام مجلس نيابي".
ومع تصاعد مطالب الحركة الوطنية حول الدستور والمجلس النيابي، قام الأمير بزيارة إلى إربد في 25 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1927، حيث ألقى مفتي إربد نفسُه خطاباً ذكر فيه "أن البلاد تطلب الإسراع في تأليف مجلس نيابي". ولكنّ ردّة فعل الأمير تحوّلت إلى تهديد :"أنا لا أريد أن أضيّع البلاد من أجلكم. والذي أسمعه بعد اليوم يتحدّث عن المجلس النيابي سأضع الحديد في رجليه وألقيه في غياهب السجن" (ص. 23).
أمّا العامل الثالث (الانتداب البريطاني)، فقد كان يتعامل في قراراته بطريقة إملائية، سواء على الأمير أو رئيس الحكومة، وصولاً إلى معاهدة 1928 التي قدّمها المعتمد البريطاني في عمّان جاهزةً باللغتين العربية والإنكليزية، طالباً من الأمير والحكومة الموافقة عليها دون أن يعرفوا مسبقاً ما فيها من شروط ثقيلة على حرّية البلاد. ومن هنا، فقد فجّرت هذه الاتفاقية معارضةً وطنية واسعة اتّخذت شكل أحزاب سياسية ومؤتمرات وطنية بقيت تُعارض هذه المعاهدة حتى استبدالها بمعاهدة 1946، التي اعترفت باستقلال الإمارة مع السماح بوجود عسكري بريطاني في الجيش وعلى شكل قواعد في البلاد.
لقد جاءت هذه المعاهدة، التي تحوّلت بعدها الإمارة إلى "المملكة الأردنية الهاشمية"، في ظرف جديد، مع تفاقم الصراع في فلسطين وصولاً إلى حرب 1948 وما آلت إليه من ضمّ قسمٍ من "فلسطين العربية" حسب قرار التقسيم في 1947 (الضفّة الغربية) إلى "المملكة الأردنية الهاشمية"، وهو ما أدّى إلى تغيير ديموغرافي حمل معه وعياً جديداً وحراكاً سياسياً، ليبرز معارضة سياسية أكثر تنظيماً عبر الأحزاب الجديدة التي برزت في الساحة ("حزب البعث"، والحزب الشيوعي"، و"حزب التحرير"، و"الحزب الاشتراكي الوطني"... إلخ). وقد ترافق ذلك مع اغتيال الأمير عبد الله في 1951 وتولّي حفيده الحسين بن طلال العرش في 1953، والذي كان منفتحاً أكثر على مطالب المعارضة المدنية والعسكرية بـ"تعريب الجيش"، الأمر الذي تحقّق في 1956 ومنحَ الملك الجديد شعبيةً في البلاد.
ولكنْ في غضون ذلك، برزت تحدّيات جديدة لنظام الحُكم مع انطلاق الموجة الناصرية في المنطقة، ومعارضة رغبة الحكومة في الانضمام إلى "حِلف بغداد" الذي تشكّل في 1955 لمقاومة المدّ الشيوعي، وصولاً إلى انتخابات 1956 التي أدّت إلى فوز بارز لـ"الحزب الاشتراكي الوطني" وتشكيل رئيسه سليمان النابلسي (الذي كان يؤيّد حكومة عموم فلسطين ويعارض ضمّ الضفّة إلى الأردن)، حكومةً يسارية في 29 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1956، اعترفت بالاتّحاد السوفييتي في الثاني من نيسان/ إبريل 1957. إلّا أن الملك الحسين، الذي كان قد قبل بمبدأ أيزنهاور المُعلَن في مطلع 1957 لمساعدة الدول لتجنّب "الخطر الشيوعي"، وهو ما جعل الولايات المتّحدة تأخذ مكانة بريطانيا في الأردن، رفضَ القرار وطلب من النابلسي تقديم استقالته في العاشر من الشهر نفسه.
يُبرز الاتجاهات الجديدة للمعارضة مع سيطرة التيّار الليبرالي
ومع الكشف عن محاولة انقلابية، دخلت البلاد في مرحلة جديدة مع حكومة إبراهيم هاشم التي أعلنت الأحكام العرفية وحَلَّ الأحزاب السياسية، ما أدى إلى انتقال قسم من المعارضة إلى المحور المناوئ للأردن (مصر وسورية) وتفاقم التوتّر في البلاد والعلاقات مع الدول المجاورة.
وكان من نتائج هذه التطوّرات المتسارعة، كما يقول المؤلّف، تغيُّر البنية العسكرية في الجيش نتيجةً لتصفية قيادات لتحلّ محلّها قيادة ذات مرجعية عشائرية (الفريق حابس المجالي) موالية تماماً للملك. ولكنّ محافظة يرى أن التطوّر الأخطر كان يتمثل في الدور المتنامي للأجهزة الاستخبارية الأردنية "التي تمتّعت في السنوات التي تلت 1957 بسلطات استثنائية منذئذٍ حتى اليوم، وتدخّلت في تعيين الوزراء وكبار موظّفي الدولة وفي ترقياتهم أو في إحالتهم على التقاعد، واستمرّ تعيين أي موظف في أجهزة الدولة والشركات التي تساهم فيها الدولة يخضع لموافقة مدير المخابرات العامة منذ سنة 1957 حتى 1992" (ص. 103).
ومن الواضح هنا أن الأمر يتعلق بـ"التحوّل الديمقراطي" الذي حدث في الأردن بعد "هبّة نيسان" 1989، التي جاءت بعد أزمة كبيرة أبرزت الخلل في التطوّر الاقتصادي والاستقرار السياسي، وهو ما يبيّنه المؤلّف في الفصل الثامن "المعارضة السياسية الأردنية في ظل الديمقراطية المقيّدة 1989-1999". ونتيجةً لذلك، قدّمت حكومة زيد الرفاعي استقالتها، وكلّف الملك الشريف زيد بن شاكر بتأليف حكومة جديدة يكون من مهامّها إجراء انتخابات نيابية حرّة. ومع إجراء هذه الانتخابات في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، وصل إلى البرلمان الجديد 23 نائباً من الأخوان المسلمين، و13 نائباً من التيّار القومي واليساري (من أصل 80 نائباً)، وجرى تكليف مضر بدران بتشكيل حكومة جديدة أعلنت الإفراج عن المعتقلين السياسيين وإعادة جوازات السفر المحجوزة وحرّية السفر وصولاً، في 16 كانون الثاني/ يناير 1990، إلى إلغاء قانون مكافحة الشيوعية لعام 1953، وإلغاء قرار رئيس الوزراء بتاريخ 13 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1965 الذي يقضي بوجوب الاستئناس برأي المخابرات العامّة عند تعيين الموظّفين والمستخدمين في الأجهزة الحكومية.
ومع قرار الحكومة الجديدة لزيد بن شاكر بإلغاء الأحكام العرفية في 21 كانون الأوّل/ يناير 1992، فُتح الباب أمام البرلمان لإقرار "قانون الأحزاب السياسية" في 5 تمّوز/ يوليو 1992، لتدخل البلاد في حالة "ازدحام حزبيّ" بعد عقود من تجريم الانتساب إلى أيّ حزب سياسي. ونظراً إلى أن هذه التطورات تزامنت مع عقد "مؤتمر مدريد" وانفتاح أفق التفاوض مع "إسرائيل"، يرى المؤلّف أن هناك من رأى "أنه لا بدّ أن التخلّص من المعارضة المحتملة في البرلمان"، ولذلك جرى وضع قانون جديد للانتخابات يقوم على الصوت الواحد وتوزيع الدوائر الانتخابية بشكل يسمح بتمثيل أقوى للعشائر لـ"ضمان مجلس نيابي طيّع". ولذلك، عندما جرى عرض"معاهدة وادي عربة" على البرلمان الجديد في 26 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1994، حظيت المعاهدة بأغلبية مريحة في البرلمان (55 نائباً) مقابل معارضة 23 نائباً فقط.
في الفصلين العاشر والحادي عشر، ينتقل المؤلّف إلى "المعارضة السياسية الأردنية في عهد الملك عبد الله الثاني بن الحسين"، ليُبرز الاتّجاهات الجديدة للمعارضة مع موجة الخصخصة التي كشفت عن فساد كبير وكرّست سيطرة التيّار الليبرالي الجديد الذي مثّله باسم عوض الله، وتآكُل الولاية العامّة للحكومة، وصولاً إلى اندلاع الربيع العربي الذي أَطلق في الشارع الأردني حراكاً متواصلاً جمع بين ما هو سياسي (إصلاحات دستورية تُعيد الولاية العامة للحكومة) وما هو مطلبيّ (تأسيس نقابة للمعلّمين وغيرها). وفي حين أن البداية اتّسمت بتدخّل خشن لقوى الأمن في "دوّار الداخلية"، إلّا أن الأمر تغيّر مع الانتقال إلى "الدوّار الرابع" المقابل لرئاسة مجلس الوزراء في 10 أيلول/ سبتمبر 2012، الذي أتى لاحقاً بحكومة عمر الرزّاز، ابن السياسي منيف الرزّاز الذي كان أحد ضحايا مرحلة الأحكام العرفية.
يميّز بين التمرّد العشائري على السلطة والمعارضة الوطنية
ولكنّ هذا الفترة ترافقت أيضاً مع بروز معارضة جديدة ضدّ التعامل مع "إسرائيل"، وخصوصاً مع توقيع الاتّفاق على استيراد الغاز منها. غير أنّ تفاقم الوضع الاقتصادي نتيجةً لانتشار جائحة كورونا، واعتماد أوامر الدفاع حسب الأحكام العرفية، قيّدا التجمّعات والحراكات في الشارع.
ولكنّ ما يلفت النظر في هذا الكتاب هو أن المؤلّف خصّص الفصل الأخير لـ"الهوية الوطنية الأردنية"، التي ثار حولها الكثير من الحديث خلال مناقشة التعديلات الأخيرة على الدستور في 2021. ومن الواضح هنا أن علي محافظة قدّر أن هناك مَن يلعب على إضعاف المعارضة السياسية بتحشيد مشاعر المكوّنَيْن الرئيسيين (الأردنيين والفلسطينيّين) من أجل إشعال معارك جانبية، وهو ما يعيده المؤلّف "إلى دوافع اقتصادية وحوافز مصلحية ذاتية في معظمه" (ص. 339).
ومع كلّ هذا، يمكن القول إن تخصيص كتابٍ لمئوية مُعارَضة عربية يستحقّ الاحتفاء به، وهو يأتي في مواجهة سرديّة مئويةِ الدولة ــ التي خُصِّص لها الكثير من الندوات في الجامعات ــ لكي تكتمل الصورة من الطرفين، وهو ما لم يكن ليتحقق لولا وجود سقف أعلى من الحرّية لا تحتمله معظم الدول العربية الأخرى، للأسف.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري