صدرت عن سلسلة "ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" النسخة العربية من كتاب "تاريخ موجز للعلمانية" للباحث الكندي غرايم سميث، بترجمة الباحث المغربي مصطفى منادي إدريسي، ويقدّم من خلاله وجهة نظر بديلة للعلمنة.
يجادل المؤلّف بأن الفكر العلماني يعتمد بشدة على الافتراضات المسيحية، إلى درجة لا يمكن معها استيعاب الأخلاق الليبرالية والأخلاق الغربية الحديثة إلا باعتبارها إرثًا مسيحيًا. ويفند وجهة نظر الباحثين الذين يعلنون انتهاء المسيحية، ويرى أن العلمانية لا تمثل نهاية المسيحية، ولا تدلّ على إلحاد الغرب؛ بل يجب النظر إليها باعتبارها التعبير الأحدث عن الديانة المسيحية، وعلى أنها الأخلاق المسيحية مفصولة عن عقيدتها.
يقدّم الكتاب خريطة واضحة للعلمانية كما هي في الفكر الغربي، فيتناول الأنماط الرئيسة للانخراط الديني وفك الارتباط داخل المجتمع الغربي، إضافة إلى الهوية المسيحية والدين الشعبي والحياة المسيحية القروسطية، والمسيحية الفيكتورية، وتأثير عصر التنوير، ومحاولات الناس العاديين معاودة ابتكار المسيحية، والمعتقدات الدينية والأخلاق المسيحية المعاصرة.
يقدّم الكتاب خريطة للعلمانية في الفكر الغربي والأنماط الرئيسة للانخراط الديني
في الفصل الأول "العلمانية الغربية"، يقول سميث إن دراسة العلمانية المعاصرة تقتضي دراسة هوية المجتمع الغربي الثقافية والدينية، ويبدأ الفصل الثاني "العلم: التقانة الجديدة"، بالقصة التقليدية المتعلقة بنشأة العلمانية، التي تؤكد أنه في نزال الأفكار بين النزعة الطبيعية ونزعة ما فوق الطبيعة، كسبت العلوم النزال. وفي المجال العام، اكتسبت العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية صدقيتها. وفي أحسن الأحوال، بقي الاعتقاد الديني مسألة رأي خاص.
يقدّم الفصل الثالث "العلمانية والتاريخ الاجتماعي" الإحصاءات التي تستعمل عادة في ما يتعلق بتراجع الكنيسة، ويلي هذا كشف التفسيرات المختلفة للعلمنة الغربية. فنظريات ستيف بروس المتعلقة بالتحديث، خصوصًا تلك المتعلقة بالتفكك الاجتماعي ونهاية الجماعة والعقلانية التقنية، هي نقطة البدء في هذا الاستقصاء. لقد اعترض عدد من الباحثين على تفسير بروس، فأكدوا أن ما يفسره الرجل هو تراجع الكنيسة، لكن هذا يختلف عن تراجع الإيمان المسيحي.
في الفصل الرابع "الناس العاديون يعيدون ابتكار المسيحية"، يبحث المؤلّف في فكرة أن الناس العاديين يعيدون ابتكار المسيحية، ويبين أن تاريخ المسيحية كان دائمًا تاريخ تحول وإعادة ابتكار، "وما نصفه على أنه ظاهرة من القرن الحادي والعشرين هو في الواقع جزء عادي من حياة الكنيسة".
يعالج سميث في الفصل الخامس، "الذهاب إلى الكنيسة والحج في العصور الوسطى"، مجالين مهمين للمقارنة بين الغرب في العصور الوسطى والغرب المعاصر. القضية الأولى المثيرة للجدل هي قضية الذهاب إلى الكنيسة، والقضية الثانية هي مكانة الإيمان بما فوق الطبيعة في المجتمع القروسطي.
أما الفصل السادس "الحياة المسيحية القروسطية والحياة المسيحية المعاصرة"، فيسلط الضوء على سمات مشتركة بين الهوية الدينية الغربية المعاصرة ومسيحية العصور الوسطى. برأيه، يتميز المجتمعان على حد سواء بوجود معرفة تقنية بالدين الشعبي، ويشترك معظم السكان في هذه المعرفة. إنها تختلف عن العقيدة الأرثوذكسية الرسمية للكنيسة وعن المؤسسة اللاهوتية الأكاديمية. وكثيرًا ما تفتقد المؤسسة قيمتها وأهميتها، لكنها تظل مصدرًا قويًا بالنسبة إلى الناس في سعيهم إلى الاطمئنان والأمن.
يؤكد سميث في الفصل السابع، "تأثير التنوير"، أن للأخلاق الليبرالية هوية مسيحية، نظرًا إلى فردانيتها الأساسية، "وقد رأينا كذلك حضور الأخلاق المسيحية الواسع في المجتمع الغربي من خلال دراستنا البديل العدمي. ومعنى ذلك عندما يسعى المجتمع العلماني إلى أن يكون أخلاقيًا، فإنه يظل معتمدًا على أفكار ومصادر مسيحية. فالمسيحية ما فتئت تتمتع بحضور متواصل داخل المجتمع العلماني الغربي".
في الفصل الثامن، "العصر البيوريتاني الأخير"، يبيّن كيف كانت الحقبة الفيكتورية زمنًا شهد دعم الكنيسة وحضورها بشكل استثنائي. فقد كان القرن التاسع عشر ذروة في تاريخ المسيحية المتموج، وكان السبب هو الجهد الهائل الذي بذلته الكنيسة في التبشير. وهي ركزت على أداتين بارزتين للتبشير: الزيارة المنزلية وكراسات الدعاية الدينية. وكانت هاتان الأداتان جزءًا من ثقافة أوسع جلبت الناس إلى الكنيسة بأعداد كبيرة.
في الفصل التاسع والأخير "مجتمع الأخلاق"، يقول سميث إن إحدى السمات الغريبة التي تميز المجتمع العلماني هي أن الأغلبية فيه تؤمن بالله، وتعبير الغربيين عن الإيمان مسألة جدية. ويرى أن الثقافة المسيحية تغيرت منذ الحقبة الفيكتورية، فهي الآن أقل هيمنة، وتقريبًا في كل أنحاء الغرب قلَّ عدد الذين يترددون إلى الكنيسة. لكن الحقبة الفيكتورية كانت استثنائية في مستويات ولائها العالية للكنيسة، "وما حدث هو أنهم وصفوا هذا الهبوط بأنه تراجع المسيحية. وقد أكدت، على نقيض ذلك، أن من الأنسب اعتباره رجوعًا إلى مستويات أكثر اعتيادية للإيمان والممارسة الدينيين".