"فالتر بنيامين، جيرشوم شوليم، مراسلات 1922 - 1940" عنوان الكتاب الصادر عن "دار الجمل" بترجمة وتقديم عبد القادر مرزاق. يضمّ الكتاب أيضاً مقدّمة ضافية بتوقيع أنسون راينباخ. المقدّمتان، بخاصة تلك التي لراينباخ، قراءتان معمّقتان، لا للمراسلات وحدها، لكن أيضاً لسيرتي المراسلين وفكرهما.
المراسلان، كما نعلم، يهوديان ألمانيان، أفضى بهما صعود النازية الى مغادرة ألمانيا. بنيامين إلى باريس ومدن أُخرى، وشوليم إلى فلسطين بالدرجة الأُولى. كان شوليم صهيونياً، ولكن على طريقته، فيما بنيامين الذي "غازل الصهيونية"، شأنه شأن يهود وقته، وجد أنّها استجابة غير كافية، وأنّ "اليهودية ليست بأية حال غاية في ذاتها". لم يمانع بنيامين زيارة شوليم في فلسطين، التي بقي هذا اسمها في رسائل شوليم. لكنّه لم يُصرّ على ذلك، وبقي متردّداً حياله، ولم يُنجزه حتى وفاته منتحراً. كان شوليم منكبّاً طول الوقت على دراسة التصوّف اليهودي (القابالا)، وشغل في فلسطين كرسيّ هذا التصوّف.
أمّا بنيامين، الاسم البارز في مدرسة فرانكفورت التي كانت تغلب عليها ماركسيات خاصّة، فقد كان، على طريقته أيضاً، منحازاً إلى الماركسية، وربما كان لعلاقته ببريخت المسرحي والشاعر الألماني، أثرٌ في ذلك. إلّا أنّ بنيامين، الذي رُفضت في الاتحاد السوفييتي دراسته عن غوتيه، لم يكن متحزّباً. حين يتكلّم على "شيوعيته"، لا يمتنع عن وصف الكثير ممّا يصدر عن الماركسية، بالسفاسف، وهُو، في مقام آخر، يَذكر أنّه لا يقيم وزناً للعقيدة، وليس صاحب عقيدة. يمكن أن نجد ذلك جلياً في فكر بنيامين، الذي لا يركن إلى أيّ نظام فكري، ولا يمكن نسبته إلى أي عقيدة، بل إلى أي حقل فكري. في كتاباته ما يمكن ردّه إلى باطنية خاصّة، بحيث إنّها لا تندرج في أي فلسفة. بل هو، بحسب فلاسفة قدّموه، لا يكاد يمتّ إلى الفلسفة.
إلّا أنّ الخليط اليهودي، الماركسي، السريالي عند بنيامين، دعا شوليم، في مراسلة إلى إنكار ماركسيته، وإلى اعتباره "لاهوتياً" من نوع خاصّ. يقول شوليم إنّ "أسلوب التفكير الميتافيزيقي لدى بنيامين، وطريقته الماركسية، جعلا منه لاهوتياً انقطعت به السبل في عالم الدنس". يخاطبه، في واحدة من مراسلاته، فيقول إنّ "الحزب الشيوعي سيكشف عنك، دون أدنى شك، قائداً نموذجياً للثورة المضادّة، وبرجوازياً". أمّا شوليم الصهيوني، فقد كانت له أيضاً صهيونيته الخاصّة. لم تعده السياسة إلى الصهيونية، كما قال، بل قادته إليها يهوديته الخاصّة أيضاً. يهودية شوليم المستقاة من عمله على التصوّف اليهودي، نوع من القلق الروحي.
رأى بنيامين أنّ كافكا يجمع إلى يهوديته الأثر الألماني
إذ إنّه هو الداعي إلى تجديد اليهودية انطلاقاً من "القابالا"، لا يزال يتكلّم على ما يسمّيه العدمية الروحية في اليهودية. هذه العدمية تدعوه إلى العودة إلى التقليد، المبدأ الأوّل، الذي لا يضمن الحقيقة، بل إمكانية انتقالها بالتأويل. في هذه العدمية يكون الله مغترباً عن العالم، وعن الخلق نفسه. في قصيدة تعليمية له يظهر الخالق كعامل للعدمية. لا يقترب بنيامين من هذا المفهوم، لكنّه في نظريته عن اللغة، يجد أنّها اليوم ساقطة عن كلمة الله. ذلك ما يؤدّي إلى ما يشبه النفي. اللغة إذاً هي السقوط، وهي لذلك نوع من الانحلال والترّهات الساخرة، رغم ما يبقى فيها من كلمة الله الإبداعية. تفكير كهذا ينغرس في الباطنية اليهودية، ويبتعد كثيراً عن الماركسية. تلك هي الجذور اليهودية، التي كان شوليم يتقصّاها في كتابة بنيامين، الذي كان لا يسلّم بها، فهو في نظره، كما هو كافكا، ألماني بقدر ما هو يهودي.
أمّا القاسم المشترك بين الاثنين فهو كافكا، الذي كان، حينها، لا يزال اسماً قلقاً. كافكا، في نظر شوليم، سليل العدمية الروحية اليهودية. لم يكن هذا تماماً رأي بنيامين الذي قرّر أنّ كافكا، يجمع إلى يهوديته الأثر الألماني. إنّه، في نظر شوليم، ابن الوحي، فيما أنّه، في نظر بنيامين، اغتراب عن السفر المقدّس، ونوع من انتزاع الجوانب الهزلية من اللاهوت اليهودي. كافكا، في نظره، لا يزال التلاميذ عنده في نوع من الاغتراب، عن المبدأ الأوّل، عن التقليد.
شوليم في فلسطين، والحرب العربية اليهودية بادئة هناك. لكنّ مراسلات اليهوديّين قلّما تعرّج على هذا الموضوع. انتمى شوليم إلى "بريت شالوم"، التي تدعو إلى دولة ثنائية من العرب واليهود، لكن هذه الفرقة لم يكن لها حضور جماهيري. لا نقرأ لبنيامين، في مراسلاته شيئاً عن هذا الموضوع. لا يزال شوليم يقول "فلسطين" في رسائله، إلّا أنّه، في كلمة ختامية، بعد انتحار بنيامين، يذكر لأوّل مرّة كلمة "إسرائيل".
* شاعر وروائي من لبنان