"فرصة لغرام أخير" رواية حسن داوود الصادرة عن "دار نوفل"، هي كما يحمل عنوانها رواية الفرصة الأخيرة للحياة، الحياة التي تغدو شبَحية وهامدة بالوباء. كأن الكورونا المُداهِمة هي تقريباً فصلُها الأخير، الكورونا هذه هي الخلاء الذي صاره الشارع وصاره الحيّ. إنه الفراغ الذي يجري ما بين بنايتين، وراء النوافذ وخلف المشربيات.
الكورونا هي أيضاً ذلك الصمت، ذلك الوقت الفاتر، هي أيضاً كلام عبر التليفون بين تامر وعزت المُقيمَين في ذات البناية، وهي الكلام بالنظر وبالكتابة ما بين عزت وجارته في البناية المُقابِلة. إنها علاقات تتم وراء العلاقات، كلام وراء الكلام، الكورونا تستفرغ الشارع والحي، إنها تؤسّس لنوع آخر من العلاقات، نوع آخر من الحياة، يُمكننا هنا أن نتكلّم عن حياة ثانية، عن حياة آخِرة، كما يُمكننا أن نتكلّم هكذا بسهولة عما بعد الحياة.
إلسا وراء مشربيّتها، إنها تعيش مع حماتها، تتقاسمان حياةً في غياب الزوج ـ الابن. إنهما متجاورتان وليس أكثر. الكورونا مع ذلك قائمة في ذلك الفراغ الذي يتّصل بينهما. عزت يُطلّ من على شرفته، زوجته في أستراليا، الكورونا قائمة في تلك المسافة التي تفصله عن زوجته. ثمة انفصال لإلسا عن زوجها، انفصال عزت عن زوجته، هناك أيضاً تامر شريك عزت في البناية، ونحن نعرف أنه، هو الآخَر، منفصل عن زوجته، منفرد في شقّته. لكن نعرف أيضاً أنه كاتب وله كتب، بيد أنه توقّف عن الكتابة، ذلك أيضاً انفصال.
يبدو الحب من اللحظة الأولى متعثّراً ولا نعرف سرّ ذلك
هذه الانفصالات تحصل في وقت الكورونا، يُمكننا أن نجد فيها ظِلالاً من الكورونا، يُمكننا أن نعثر فيها على ما يوازي الشارع الصامت والبنايات الخالية، أي أنها استفراغ للحياة، وخلاء إضافي، وافتراق بارد، وانفصالات. إنها حياة على ضفاف الكورونا، بل الكورونا نفسها برمزيتها وإشاراتها.
لكن هناك في المقابل حياة أُخرى، لنتكلّم عن غرام. عزت يترك لإلسا على صحيفة كرتون رقم تليفونه، وإلسا تُبادر إلى تكليمه. الاثنان يتواعدان ويلتقيان فعلاً في الخارج في مقهى أولاً، وبعده في فندق، يتجامعان ويتحابّان، لكن هذه العلاقة لا تكفي، هذه العلاقة لا تلبث أن تتأزّم. عزت يساوره شيء من الملل، يزعجه أن يتشاركا السرير، تعود له ذكريات زوجته التي في أستراليا. كذلك الأمر مع إلسا التي ينتابُها مللٌ أيضاً. هي لا تلبث أن تنجذب إلى تامر الذي يعرّفها عزت عليه، عزت لا يمانع في أن تنجذب إلسا الى تامر، لا يمانع في أن يتقاسمها معه.
إلسا وتامر يباشران صلة لا تلبث أن تخيب، ليس لتامر المسنّ طاقة على مباشرة إلسا، ولا يلبث أن يعود إلى دينا صديقته في الشباب، عودة هي الأُخرى خائبة ولا طاقة له عليها. الحب هو الصفحة الأُخرى للرواية، لكن الحب هكذا، يبدو، من اللحظة الأُولى متعثّراً، يبدو خائباً، لا نعرف سبب ذلك أو سرّه.
لا نفهم لماذا نَأتْ إلسا بنفسها وابتعدت عن عزت، رغم أن صلتهما الجسدية تبدو، لأول وهلة، ناجحة. لا نفهم لماذا يعرض عزت إلسا على تامر، ولماذا يوافق تامر، في الوقت نفسه الذي يكون فيه راجعاً إلى دينا حبيبة الصبا. لا نفهم أيضاً كيف أنّ تامر الكاتب القديم، يفكّر في العودة إلى الكتابة، لكنه لا يلبث أن يتراجع ويتحقّق من خيبته في هذا المجال.
كلّ هذه البوادر، تراجع عزت عن إلسا وعرضها على تامر، تراجع إلسا عن عزت وانجذابها إلى تامر، وعودة تامر إلى دينا واعتزاله الكتابة نهائياً. كلّ هذه التفاصيل تفاجِئ ولا سبيل إلى فهمها أو تفسيرها أو اجتماعها، وتقاطعها بعضها مع بعض، وتواقت ذلك مع سريان كورونا وموت حماة إلسا بسببها.
كل هذا يبدو من شتى النواحي استعادة متكرّرة للكورونا. الحبّ يجد نفسه على أبواب الخيبة، على ضفاف الفشل، إنه صفحة ثانية من الكورونا، إنه ما بعد الكورونا، الحياة ما بعدها. الكورونا التي احتاجت إلى هذا النص القوي، لتظهر من الداخل الكورونا التي احتاجت إلى هذا النص القوي، لتظهر من الداخل والخارج. لا يمكننا هكذا أن نتكلّم عن الحبّ في زمن الكورونا بقدر ما نتكلّم عن الحب من داخل الكورونا، عن الحب الكوروني.
* شاعر وروائي من لبنان