تحت عنوان "Sui Generis" الذي يمكن ترجمته بـ "فريد بنوعه"، يستضيف غاليري "ديريمارت" في مدينة إسطنبول، معرضاً لواحدٍ من أبرز الفنانين الأتراك وأكثرهم فرادة: يوكسيل أرسلان، حيث يضمّ مجموعة من أهم رسومات ولوحات المبدع التركي، في ذكرى مرور ستّ سنوات على رحيله (1933 - 2017). وتُمكن زيارة المعرض حتى السادس عشر من الشهر الجاري، في حيّ دولاب ديري بالمدينة التركية.
وُلد أرسلان في عائلة من الطبقة العاملة. درس تاريخ الفنّ. وعندما لاحظ أحد أساتذته رسوماته الأولى، شجَّعهُ على الرّسم. تضمَّن معرضه الأول، عام 1954، أعمالاً هجينة من البشر والحشرات، وقد بيعت كلّها، ليستثمر الفنان التركي المالَ الذي حصل عليه في شراء الكتب. يُحكى عنه أنه في كلِّ مرةٍ كان يحتاج فيها إلى النقود من أجل شراء مزيدٍ من الكتب، كان يعود إلى الرسم. هكذا ستلازمه هذه العادة بقية حياته.
تمكَّن أرسلان من خلال قراءاته المتعدّدة العثور في أحد الكتب على وصفة إنتاج الطلاءات والألوان في العصور القديمة. جمعَ الرسّامُ التركي بين هذه المعرفة وبين صيغ استخدام أصباغ الجذور التي تعرّف عليها من النساء في قرى الأناضول، ليبدأ بذلك تجارب ابتكار أدوات ومواد الطّلاء الخاصّة به، مستخدماً من أجل هذا الغرض الأعشاب، والتبغ، وأوراق الشاي، والتربة، والعسل، وبياض البيض، بل وحتى نخاع العظم والدم والبول! وقد كتب أرسلان عن هذه التجارب في دفتر يومياته، حيث قال: "لقد دفعني الفقر، والاشمئزاز من الطلاء الاصطناعي، والطبع، إلى البحث عن طلاء طبيعي". بهذا الشكل استطاع لاحقاً أن يخلق لوحة الألوان الخاصة به التي سيتميّز بها.
أثارت أعمال يوكسيل أرسلان اهتمام كلٍّ من تاجر الفن الفرنسي ريموند كوردييه ومؤسس السريالية أندريه بريتون، حيث أُعجبا بأعماله وثيماته التي تحمل آثاراً من الفنون الشعبية التركية والسريالية. وبناءً على ذلك تمت دعوته للعمل والعرض في باريس، حيث سيعيش حتى رحيله.
وعلى الرغم من قربِ أسلوبِه من المدرسة السرياليّة، فإنه يصعبُ تصنيف أعمالهِ ضمن فئةٍ أو مجموعةٍ أو حتى أسلوبٍ في تاريخ الفنّ، تماماً كما جاء في عنوان المعرض. وصحيحٌ أنَّ أرسلان قد تأثَّر بمجموعة من الرسّامين، منهم الفنان الإسباني خوان ميرو (1893 - 1983)، والألماني بول كلي (1879 - 1940)، والهولندي هيرونيموس بوس (1450 - 1516)، والفنان والمصوِّر الفارسي محمد سياه قلم (القرن الخامس عشر)، إضافة إلى الفنون الشعبية التركية مثل الكاراكوز، إلّا أننا نستطيع أن نقول إنّه استمد إلهامه الرئيس من الأدب والشعر والفلسفة، لا سيّما أنّ أعماله توزّعت بين الكتابة والرسم. لكنه مع ذلك لم يحاول تمثيل أو توضيح النصوص التي استوحاها، بل أعاد التعبير عنها ورسْمها بصريّاً. وفي هذا الإطار، قال عنه صديقه الكاتب التركي فيريت إدغو إنه "لم يكن مهتماً أبداً بإشكاليات الرسم - الفن".
عمل لسنوات على رسومات تصوِّر "رأس المال" لماركس
أمَّا الكاتبُ والناقد الفنيُّ المعروف مظهر إيبشير أوغلو، فقد اقترب من تجربة أرسلان الفنيّة وقال عنه إننا "يجب أن نلقّبه بـ ’رسّام الكلمات‘. يبدو واضحاً أنّه ابن أُمّةٍ لم تستطع الخروج من تعويذة الكلمات، ولم تتمكّن من مواجهة الواقع".
والحال يقول إنَّ وصفَ الفنان التركي بأنه لم يواجه الواقع غير منصف لمسيرته الإبداعية، فقد كان أرسلان ماركسياً شغوفاً في قلبه وعقله. حتى أنه، كي يثور على الواقع، لم يختر اتباع أسلوب يمكن من خلاله أن يُوصفَ بأنّه "واقعيّ"، بل أقحم نفسه في رحلة طويلة دامت ما يقارب العقد، حاول خلالها أن يرسم بصرياً "رأس المال"، لماركس، لا أن يوضّحه أو يفسّره.
ترك يوكسيل أرسلان في رصيده حوالي سبعمائة قطعة فنّية ستجعل منه واحداً من أكثر الفنانين تميُّزاً وفرادةً في بلده. عُرضت أعماله في مراكز ومتاحف وغاليريات عديدة، منها: "متحف الفنّ" في فيينا، "مركز الرسم" في نيويورك، و"بينالي الفنون" في البندقية، إضافة إلى باريس، حيث كان آخرها في "مركز بومبيدو". وقد أعلن مؤخّراً ليفينت أوزنيت، مدير غاليري "ديريمات"، أن "متحف غوغنهايم" في أبو ظبي، والذي من المقرّر أن يفتح أبوابه عام 2025، اقتنى ضمن مجموعته الدائمة ستّ قطع فنّية من أعمال الفنان التركي.