"في انتظار خبر إنّ" للطاهر لبيب.. الرواية وطبقاتُها

29 اغسطس 2023
الطاهر لبيب
+ الخط -

في بدايات رواية التونسي الطاهر لبيب "في انتظار خبر إنّ"، الصادرة حديثاً عن "منتدى المعارف"، نقرأ "تغيب أسماء الأشخاص وتبقى أنماطُهم"، هذه العبارة التي تتكرّر في الرواية، بحَرْفها وبغيره، تكاد تشمل النص في جملته. الرواية بلا أسماء أشخاص، إذ تحلّ مكانَهم صفاتٌ، فهُناك إلى جانب الراوية، المرجع والخطيب والتراجيدي والشاعر... إلخ. بيد أن الأمر لا ينطبق على الأماكن، فهناك بيروت وتونس وتتفرّع عنهما أمكنةٌ شتّى. لا تتسمّى الأماكن فحسب، بل تتسمّى الأحداث على طول عقود، بل تستشعر على الدوام أنّ الرواية تصدر عن سيرة ذاتية، وأنّ بيروت التي هي محور الرواية، هي بيروت الطاهر لبيب.

بل إنّ الرواية نفسها هي مدار هذه السيرة، إذ لا نزال مع الطاهر في مشروع الرواية التي استنفدت أعواماً، بل وعشرات السنين حتى قامت وتكوّنت. نحن هنا في مُوازنة دائمة بين الرواية والواقع، بين الحقيقي ومقابله الإبداعي والخيالي والثقافي، بحيث نكاد نشعر أنّنا حيال درس في الرواية. ثمّة هنا مُقابلة، بل مقابلات، بين ما يحدث فعلاً وما تجري كتابتُه. 

ازدواج بين الصور والأفكار، بين الواقع الخام ومُقابله الروائي

نبدأ نحن ممّا قبل الكتابة، من حيرتها ومن تشكيلها، أي أنّنا هكذا نبدأ من صفرٍ روائي، نُرافق الكاتب وهو يتعثّر في الكتابة وينشِئ روايته. أي أننا لسنا فقط في الجذور والأصول، إنما نحن في تاريخ الكتابة وفي تكوينها. مع ذلك فإنّ الأشخاص هُم هنا أنماط. أي أنهم فوق واقعهم وخواصهم. إنهم أنماط بما يعنيه النمط من تجاوُز لصاحبه، إلى زُمرة تحمل العنوان نفسه والصفة نفسها. 

ليس "المرجع" شخصاً فحسب، وكذلك "الخطيب"، وكذلك "التراجيدي"، هؤلاء يمُتُّون إلى أكثر من أشخاصهم، يمتُّون إلى نوع وإلى عنوان جامع. إذا تمعّنّا في ذلك تبدّى لنا أنّنا هكذا، في ما يُمكن أن نعتبره الخطاب الراهن، أي ما هو جدلُ الثقافة اليوم. نحن هكذا في مستوىً أعلى من الأفراد، وحتى من الأماكن، إذ حين نتفحّص كلام هذه الأنماط وصفاتِهم، نجد أنفسنا في ما يتجاوزهم ويتجاوز أماكنهم. إننا هكذا في المدى العربي كلّه، وفي الخطاب العربي الراهن. نحن إذ نسمع الخطيب، على سبيل المثال، لا نسمع شخصاً مُحدّداً، الخطيب هنا ليس شخصاً مُحدّداً أيضاً، نحن نسمعه من خارج الأحداث والوقائع، نسمعه كنمط من الخطاب ومن الثقافة. 

غلاف الكتاب

إنه يصلُ إلى الرواية من خارجها، ليحوّلها في جملتها، هو وأمثاله، إلى نوع من قراءة ثقافية، إلى تنميط لا للأشخاص فحسب، ولكن للخطابات المتعدّدة التي تتقاطع جميعها، وتتداخلُ في ما يُمكن اعتباره الخطاب العربي. مع ذلك لا ترِدُ بيروت اعتباطاً، ولا تكون مجرّد مثال. إنها حقيقية ولها واقعُها، لا يتجلّى ذلك في اسمها وحده. الأنماط التي تتواتر فيها هي أيضاً أنماطها، وهي، في مجموعها وصفاتها بل وكلامها، لها. إننا هكذا نسمع الخطاب العربي، ولكن بلسان بيروتي. الأمر هو نفسه في تونس، ولو بدرجة أقل، لأن الرواية لا تدور عبثاً في بيروت. الرواية لا تمتُّ إلى بيروت، وتدور تقريباً في بيروت وحولها، إلّا لأن هذا هو الذي يؤهّلُها لتكونَ رواية. ليس الطاهر لبيب لبنانياً، إنه تونسي، وتونس بلده، لكنّ هذا، بحسب الرواية، لا يكفي لرواية. الرواية تدور حول بيروت التي ليست مدينة الطاهر، لكنّها مضافته. ليست مدينته بالولادة لكنها كذلك بالاختيار.

ليست بيروت مدينة الروائي بالولادة ولكنّها كذلك بالاختيار

إنها مدينته وهو الغريب عنها، لكنّ كونه كذلك هو الذي يُؤهّله ليشكّلها على هواه. كونه كذلك هو الذي يُتيح له أن يراها كما يحبّ، وأن يراها بالعُمق والتركيب اللذين له. أي لأنه كذلك لا بدّ له من أن يقرأها بهذا التفصيل، وذلك التكامُل. إنه يملكها بهذا المعنى، كما لا يملكها مولود فيها. إنه يجعلها نصّاً له، يصنع خطاباً لها ونظرية منها، أي بكلمة أُخرى رواية. بيروت هي هكذا منذ البدء، أساسُ رواية الطاهر لبيب، لأنها في الأصل روايته. مشروع الرواية كان منذ البدء قائماً، قائماً في الواقع نفسه. علاقة المؤلّف بالمدينة: بيروت، كان يحمل هذه البذرة، يحمل المشروع الروائي، وكان على المؤلِّف أن يستجيب له. 

كانت الرواية هي بيروت، ونقلُها إلى نص مكتوب، احتاج إلى كلّ هذا الوقت وهذه المعاناة. 

نقْلُ بيروت إلى رواية، كان أيضاً يعني العثور على رواية، كما يعني انتظاره الطويل لها. أثناء ذلك كان التاريخ يستمرّ، التاريخ العربي يستمرّ، والخطاب العربي يتواتر ويتكوّن. كان السؤال العربي يتكوّن، ولكنْ في إضمارٍ يجعلُ منه في الواقع بذرة لِمَا يُمكن أن يكون رواية. هكذا تبدو الرواية في الجواب على خبر إنّ. تبدو الرواية وكأنها قراءةٌ متدرّجة من المذكّرات إلى الأمكنة إلى الخطابات. تبدو في هذا الدَّمج بين البدايات والخطابات والسؤال المُعلَّق. خلال ذلك، نحن أمام أدبٍ يتكوّن بكامله تقريباً من هذا اللقاء، وما يحمله من مفارقة وتضادٍّ، ما يحمله من التباسٍ يكاد يكون أصلَ الجُملة الطاهر لبيبية. الخطاب العربي، في أنماطه ونصوصه، يحمل على مرارة ترشَح بالسُّخرية، يحمل على فكر يجدُ جملته في تضادّ مُقيم، في مفارقة مفتوحة. هكذا نحن أمام نصٍّ يُفكِّر، ويُفكِّر بعُمقٍ ويأس، ويتكوّن منه، خلال ذلك، ما يُشبه أن يكون زرادشتاً خاصاً، وربّما عربياً. ما يبقى على حافّة الشعر، وما يخلق في هامش خاصّ، هذا الازدواج بين الصور والأفكار، بين الواقع الخام ومُقابله الروائي.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون