في حُبّ سورية

13 ديسمبر 2024
من احتفالات الشعب السوري بساحة الأمويين في دمشق بعد سقوط نظام الأسد (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- استغل النظام الخلاف حول اسم البلاد بين "سورية" و"سوريا" لتعميق الانقسامات بين المواطنين، مما زاد من حدة العداء بينهم.
- في ظل حكم الطاغية، كان التعبير عن حب البلاد محفوفًا بالمخاطر، حيث استغل النظام هذه العاطفة لصالحه، مما جعل المواطنين يخشون التعبير عن حبهم لوطنهم.
- أصبح إظهار الحب لسورية اليوم بمثابة اعتذار، حيث سيطر النظام على معجم البلاد، مما جعل كلمات مثل "الأمن" و"الحرية" رموزًا للخوف.

بين سورية وسوريا نشب خلافٌ أخير، كانت وراءه سياسة نظام لم يكن يرغب مُطلقاً في أن يتّفق سوريّان حتى على كتابة اسم بلادهم. خاض صحافيون مأجورون، ورعاة تاريخ ملغوم، المعركة نيابةً عن النظام، لحشد التأييد لنفسهم ضدّ السوري الآخر. وبسبب ذلك التحشيد الرخيص خُيّل لكثيرين أنّ انتماءهم إلى سورية، بالتاء المربوطة، أمرٌ مختلف جدّاً عن انتماء الآخر؛ الآخر الذي صار خصماً وعدوّاً، إلى سوريا.

كان موقف الآخر موازياً أيضاً، فسوريا غير سورية. هكذا أُريد لهذا البلد المنكوب الذي يستيقظ اليوم على خبر رحيل الطاغية الصغير، معلّم البلاغة، أن يحارب أهله بعضهم بعضاً في كلّ شيء، بما في ذلك اسم البلاد، وإعلان الحُبّ للبلاد.

فحُبّ سورية لم يكن ظاهراً في العلن لدى أحد، بل لم يشجّع أحد نفسه، أو يشجّع أولاده، أو يشجّع أحد معارفه وأصدقائه على إعلانه خوفاً من أن يأتي الطاغية، أو ممثّلو الطاغية على الأرض وينتزعوا اللسان الذي ينطق به. فأيّ إعلان كان يسحب، ويجير، ويُحسب لصالح الحاكم الذي أبّد نفسه، وأبد البلد، بمساعدة عصابة من المنتفعين الجبناء كي يتّجه سهم الحُبّ نحوه. 

ولهذا قلّما كنتَ تجد من يُعلن هذا من بين المحبّين، حين يرون المنافقين الانتهازيّين الوصولييّن (الذين سمّاهم الشعب السوري "الشبّيحة" ردّاً على سرقة قاموسه الأليف النظيف) يسرقون هذه العاطفة الإنسانية البديعة من أعطافهم، ومن قلوبهم، ويضعونها في خدمة الطاغية الأب السفّاح، ثمّ ينشرونها على مساحة سورية كلّها، كي تكون في خدمة الابن التافه المتحذلق رفيق الموت والسجون.

سيبدو إظهار الحُبّ لسورية اليوم نوعاً من الاعتذار للبلاد

قلّما كنتَ تجدُ أحدنا يردّد عبارة في حُبّ سورية، وهو يُحبّ بلاده كما يحبّ الآخرون في كلّ أنحاء الأرض بلدانهم، لا لأنّها سورية العظيمة، أو المسكينة المبتلاة بالطغاة، بل لأنّها المكان الذي منحهم اسم السوري. المواطن السوري والشاعر السوري والكاتب والمسرحي والطبيب والمحامي والتاجر والصناعي... السوري. حتى أنّ كاتباً سورياً راحلاً هو جميل حتمل نشر مجموعة قصصية أطلق عليها اسم "حين لا بلاد".

هكذا سرقوا منّا اللغة، أخذوا مفرداتها اللطيفة والخفيفة والناعمة والمعبّرة والأثيرة والصاخبة والعظيمة والغنية والممتلئة بالوجدان ومنحوها للطاغية، أو لأحد أولاده. أخذوا الغابة والمكتبة والحديقة والمصنع والأكاديمية والمسرح والمركز الثقافي وأعطوها للطاغية. حرموا سورية من أن تمنح أحداً من أبنائها الذين قدّموا لها وللعالم الكلمة، والفكر، والنقد، والابتكارات والمشاريع الصناعية والزراعية والاجتماعية، أيّ كلمة من تلك الكلمات التي يمكن أن تكون لهم، أو يكونوا لها. 

حتى كلمة "الأمن" التي يلجأ إليها البشر في ساعات الشدّة صارت في سورية رمزاً للخوف والذعر والجدران التي لها آذان؛ "الأمن" في سورية يعني أكثر أشكال الترويع وسفك الدماء وإهدار الكرامة. وجعلوا "الحرية" مُلكاً لشعارهم في حزبهم، وفي المرّة التي ابتدأ فيها الشعب السوري يطالب بالحرية، داس الطاغيةُ الابن الصغير على الكلمة، مزّق المعجم، ورمى بالصفحة بعيداً عن الأنظار، واتّهم الشعب بالإرهاب. هذا هو ديدن الطاغية، فقد سيطر على البلاد، وعلى معجم البلاد، وحشا أفواهنا بالصمت، أو بالكلام المبطن بتنك صدئ، أو بلاستيك مُقوّى.

لهذا سوف يبدو إظهار الحُبّ لسورية، أو لسوريا، اليوم نوعاً من الاعتذار للبلاد. ولعلّها تعذرنا.

 

* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون