"إنّ اكتشاف الذات يأتي عبر اكتشاف المدن، ومَن لا يسافر، يضمر ويموت". بهذه الإشارة، يحاول الكاتب العراقي جمال حيدر، في مستهلّ كتابه "في ظلال المدن"، الصادر حديثاً عن دارَي "لازورد" و"صفحات"، أن يُقدّم إجابة لا يُسهب فيها عن سؤال السفر، والغاية والنتيجة منه. هنا، نحن أمام محاولة لاكتشاف الذات عبر رحلة الكاتب ومن خلال مدنه. قد لا يأتي كتاب أي رحّالة أو كاتب إلّا بعد تطواف طويل بين البلدان، ومحاولات في الكشف عمّا لم يكشف عنه مَن سبقوه، وبالتالي فإنّ الأساليب في الكتابة ستختلف، والعناية بتفاصيل الرحلات وطبيعتها ستتعدّد من كاتب إلى آخر.
تتوزّع الرحلات بين ثماني عشرة مدينة حول العالم، وهذه المدن لا تتقارب بينها في شيء: مدن في الشرق، مثل بيروت ودمشق ودبي والقاهرة وإسطنبول وعمّان، ومدن في الغرب، مثل نيويورك وبرلين وباريس وأمستردام ودبلن ولندن. تختلف فيما بينها بالثقافة والتاريخ والمُجتمع، فلا شكّ أنّ ثماني عشرة مدينة حول العالم، هي ثمانية عشر عالماً بحدّ ذاته؛ عوالم قائمة بطباع سكّانها وحركتهم، بعمرانها وتاريخها وممارساتها، بقصصها وغرائبها، وما تزخر به من أضداد.
بدت بغداد كأنّها خرجت توّاً من عاصفة هوجاء
وبما أنّ الكتاب مصنَّف ضمن أدب الرحلة، فقد يُخيّل للقارئ أنّه سينطلق مع الكاتب من مكانه الأوّل -على الأكثر- إلى مدن العالم المختلفة، لكنّ حيدر في كتابه هذا ينطلق في رحلاته من خلال عودته إلى المكان الأوّل، حيث مسقط رأسه وبيت عائلته وكلّ ما شكّل فيما بعد هويته وشخصيته. يعود إلى بغداد إثر سقوط النظام، لتكون هذه المدينة أوَّل ما سيفكِّر في وضعه ضمن قائمة المدن التي لن تكون مستقرّاً بعد، وأنّها صارت -رغم مكانتها- من ضمن ما يجري المرور به والرحيل عنه، حيث يصل إلى بغداد قادماً من دمشق عبر الطريق البرّي، بعد غياب عن المدينة منذ السبعينيات؛ بفعل ما أصابه من مضايقات النظام: "هذه بغداد إذاً بعدَ كلّ أعوام الفراق، مدينة كأنّها خرجت توّاً من عاصفة هوجاء وبدت خربة، مشاهد الدمار تلفّ تاريخ المدينة وحاضرها المقذوف في الفراغ، المنازل شاخت، والوجوه والأشجار، لم أعد أعرفها أو تعرفني، شاخت في الأعوام التي تركتها، تلك التي توقَّف فيها الزمن، ولكن كيف تشيخ هذه الأشياء حين يتوقَّف الزمن؟".
إنّها العودة، إذاً، إلى المدينة الأولى، ومحطّ الرحّال الأوّل، لكنّها عودة تكتنفها الدهشة لما آلت إليه أحوالها، دهشة ستوجب على الكاتب أن يكتب عنها، وعمّا يشاهده لأوّل مرّة فيها من اختلاف كبير لم يكن ليعرفه من قبل.
بعد بغداد، تتعدّد المدن، وتتوسّع الرحلة، لتشمل تطوافاً حول أكثرها غزارة بتاريخها وتراثها وثقافاتها.
يبدأ جمال حيدر تطوافه بكلّ مدينة من خلال البدء بالحديث عن معالمها الشهيرة، أزقَّتها، مقاهيها، ولا تشعر سوى أنّك تدخل معه في حديث موسّعٍ عن تاريخها، ونشأتها، وتطوّرها، وأهمّ اللحظات السياسية والثقافية التي مرّت بها. إلى جانب أنّه يتناول كلّ مجتمعٍ على حدة، يكشف طبائعه وميوله وأسراره التي قد لا يعرفها العابر بسهولة، كما في حديثه عن مومباي ودبي والقاهرة وإسطنبول، التي تُظهر شيئاً من طبيعة مجتمعاتها للعلن، وتُضمر شيئاً ينبغي البحث عنه في دهاليز الحياة اليومية لمعرفته، إذ تتشابه هذه المدن في طبيعة تركيبتها السكّانية التي عادة ما تنقسم إلى فئتين، طبقة غنية تتحكّم برأس المال، وطبقة عاملة تقوم عليها واجبات العيش والاقتصاد الكبرى، وبالتالي تتحوّل فيما بعد إلى طبقة مسحوقة منسيّة تعيش على هامش الحياة اليوميّة، حتى ليتحوَّل الكتاب في جزء كبير منه إلى أقرب ما يكون إلى البحث السوسيولوجي؛ ولكن في إطار السرد الأدبي.
يقول عن رحلته إلى دبي: "دبي في الحاضر الراهن، مدينة متّسمة بكلّ مقوّمات الحداثة، غير أنّ خلف هذه الواجهة ثمّة مدينة أُخرى مخفيّة تحيا داخلها، إنّها مدينة العمالة الرخيصة من الآسيويين: هنود، بنغال، باكستانيين، فيليبينيين، وقليل من الإندونيسيين. قبائل من هذه الأقوام تعمل وتعيش في دبي من دون أن تلامس الجانب الآخر من حياة المدينة. تتوزّع منازلهم في أحياء فقيرة ومهمّشة، حيث يتقاسم العشرات منهم الحياة في غرف ضيّقة. إنّهم وقود تطوّر دبي ونموّها، من دون أن يعي أو يلحظ أحدٌ وجودهم. إنّهم أحد وجوه المدينة الذين شيدوا الإمارة على رؤوسهم وعَلَقَ بعضهم فيها، لكنّهم بعيدون عن المشهد العام".
لم يُفصِّل الكاتب رحلاته بشكلٍ يُشبع فضول القارئ الذي سيتساءل باستمرارٍ عن أسباب وصوله إلى تلك المدن، وكيف أقام فيها وتعرّف عليها وكيف غادرها؟ مثل حديثه عن أثينا، أو "قصر الحمراء" في إسبانيا، وشيكاغو، والقاهرة، وبيروت... فرحلة الكاتب ليست موسَّعة، وليست لها تفاصيل كافية، إنما مُقتصرة على المدينة التي سيتناولها من جهاتٍ أربع: التاريخ والمجتمع والثقافة والعمران.
أصدر جمال حيدر فيما سبق العديد من الأعمال التي توزّعت بين النقد والأدب والاجتماع والرواية وأدب الرحلات والترجمة، ليأتي كتابه الأخير هذا، مُصنَّفاً ضمن أدب الرحلات. ولكن ماذا لو استطعنا أن نقول عنه إنّه "أدب مدن"؟ أي، أدبٌ يُعنى بالمدينة أكثر من عنايته بالرحلة وتفاصيلها، مثلما عُني حيدر بالمدن التي زارها، وكشف عن أسرارها، وصهر كلّ ما يعرفه عنها ببوتقة سرديّة قدّم من خلالها خلاصة رحلاته وتجربته.