كان البطل الوسيم الأنيق شاغل الدراما التلفزيونية العربية طوال أكثر من ثلاثة عقود في نهاية القرن العشرين. ذلك البطل القادم من سلالات ثريّة منعمة مشغولة حتى العظم بالمُلكيات الكبيرة في الريف، أو من أجواء حياة برجوازيةِ مصانع البسكويت، أو العلكة، أو المنظفات، بعد أن دُمّرت تلك التي سُمّيت برجوازيتنا الوطنية. لم تكن مشاكل الصناعة تهمّ أحداً، ولا قضايا العمّال والعمل، بل تلك التفاصيل التي ادّعى منتجو الدراما أنها الحياة.
الحقيقة هي أن تلك الحياة الخاصّة، في القصور الفاخرة، قد شغلت أجيالاً من المشاهدين العرب، إذ باتت الموضوعَ الوحيد للدراما بالمواصفات القياسية العربية. وقد عمّمت الدراما مشاكل تلك الفئات بكافّة شرائحها، كي تصبح قضايا وطنية عامة، تغزو نمط حياة المجتمع بأسره من جهة، و تقدَّم على أنها مشكلته الوحيدة من جهة ثانية، في ظلّ غياب ثقافة نقدية بديلة.
تلاشت برجوازيات البسكويت وأبطالها بعد استنفاد الدور. غير أن الدراما العربية وجدت أبطالاً آخرين قادمين هذه المرّة من أجواء انتهاك الثورات العربية. فقد شهد العقد الماضي من القرن الجديد ظهور رجل العصابات وتهريب المخدرات وحماية الجريمة بوصفه بطلاً وحيداً. باتت هذه الشخصية الموضوعَ شبه الرئيسي لعدد كبير من الأعمال التي منحت العربي شكلاً محدّداً عُمّم أيضاً بوصفه نموذج العصر: لِحية الشخصية بشكلها المدبّب التي سوف تصبح موضة شباب لا عمل لديهم، شَفَتا البطلة رفيقته المنتفختان اللتان ستصبحان مثلاً أعلى في "الجمال"، بينما تنتشر أزياء الممثّلين في الأسواق العربية المهزومة أمام النموذج القاهر.
تقدّم الدراما حرب العصابات على أنها الصورة الوحيدة المقترحة للحياة العربية
تسعى هذه الأعمال لوضع الناس، خاصّةً في زمن الثورات، في بؤرة هموم ومشاكل وقضايا مزوّرة، أو تريد خلق البطل الجديد الممثَّل في زعيم العصابة، وقاطع الطريق، الذي يرفض القانون، ويفضّل عليه شريعة الغاب، كي يكون بديلاً عن الشباب العرب الذين ثاروا من أجل الكرامة والعدالة الاجتماعية والحرّية وسيادة القانون أيضاً. وعلى غرار السينما الأميركية، تمنح الدراما العربية البطل الجديد رداءً أخلاقياً يحبّبه إلى جمهور المشاهدين. ويستحسن أن يكون هذا الرداء مستلّاً من التقاليد القبلية والعشائرية، لا من عالم السلوك المتمدّن، على الرغم من أنه يَستخدم أكثر أدوات العصر تقدّماً من الناحية التكنولوجية.
واللافت أن الدراما تنجح في دفع الشخصية الجديدة إلى الواجهة، حيث تريد السياسات الثقافية العربية تعميم هذا النموذج من البطولة المغامرة التي تكسر المنطق والعقل ومطالب المجتمع، في حين يتفرّج الملايين من العرب المغلوبين على المشهد، كأنما هو التعويض عن خسارة النموذج الآخر الذين ضحّوا بأرواحهم أو بأموالهم من أجل أن يكون بطلاً، أو نموذجَ المستقبل: داعية الديمقراطية والمساواة والعيش الكريم.
تقدّم الدراما حرب العصابات والاقتتال على الجاه والمركز والمخدّرات والمال والسلاح على أنها الصورة الوحيدة المقترحة للحياة العربية: لا ثورات ولا عدالة ولا ديمقراطية ولا علمانية ولا أيّ مسألة لها علاقة بحياة الشعوب. وحتى إذا بدا رجال العصابات في المسلسل العربي خارج التاريخ، فإنّ الشاشة تدّعي أنه هو مَن يمثّل الواقع ويعبّر عنه.
* روائي من سورية