هل استنفدت الكتابة الشعرية أدواتها بالمرّة ولاحت الأحجار في عمق البئر التي شرب منها شعراء العربية من الملك الضليل إلى يومنا هذا؟ هل انحرفت القصيدة العربية عن مسارها الصحيح مع النصوص التجريبيّة التي أضرّت الشعر أكثر ممّا أفادته؟ وهل خذل شعراء قصيدة النثر قرّاءَهم حين حوّلوا الشعر إلى معادلات باردة؟
لا ولا. دعونا نتفاءل هذه المرّة مع هذه الفئة الجديدة من الشعراء التي نبتت على حواف الشأن الشعري منذ سنوات مثل بتلة صغيرة. ونمت سريعاً حتى صار لها شأنها الخاص من دون حاجة إلى من يرعاها بالماء أو الهواء. وإنْ كانت هذه الفئة - في الواقع - مظلومة إعلامياً ونقدياً، ولا أحد تقريباً انتبه إلى وجودها الطارئ بالرغم من أنّ شعراءَها يكتبون بغزارة وحاضرون في فيسبوك منذ ساعات النهار الأولى، وأقلّهم خيالاً يعجن ثلاث قصائد في اليوم، واحدة في الثامنة صباحاً والثانية في الثانية بعد الزوال، قبل أن يدفع بالثالثة بعد أذان العشاء بقليل.
حقا، إنّهم شعراء حقيقيون ربطوا مصيرهم بالمواقع الإلكترونية بالتحديد، والتي يكفي أن تملك هاتفاً بسيطاً وتربطه بإنترنت المقهى أو الجيران كي تفتح واحداً منها فتصير أنتَ هو رئيس التحرير في رمشة إصبع وتُحوّل جميع شعراء فيسبوك إلى عمّالٍ زراعيّين بالمجّان في ضيعتك الجديدة. ولقد أبان هؤلاء الشعراء الجدد عن علوّ كعبهم من خلال هذه المنصّات الخاملة وحصدوا بفضلها ألقاباً وجوائز وشهادات تقدير فصاروا، مع ريبرتوارهم الشعري، أكبر من أن يفكّروا في النشر في الملاحق الثقافية التقليدية أو المجلّات الصلبة التي تحتاج معها إلى سقوط المطر كي تقرأ موادها. وقطعاً لن تجد أثراً لنصوصهم في المجلّات وأراشيفها أو في ملاحق الجرائد الثقافية.
شخصياً، أحبّ قصائد هؤلاء وأجدها سهلة الهضم وموسيقية الأذن، بل جدّدوا في القافية حين أوجدوا أنواعاً جديدة أغفلها كتّاب "ميزان الذهب"... قصائد واضحة ولا تحتاج إلى مداخل تأويلية أو مطارق نقدية، بل تمنحك الإحساس أن نزار قباني ما زال حيّاً يُرزق يجثو على ركبتيه أمام بلقيس الواقفة بجسدها الباهظ مثل صفصافة، وأنّ شاربَ المنفلوطي ما زال كثّاً أسودَ لم تُبيّضه السنوات ولا العبرات التي أهرقها زوراً وبهتاناً. أتحدّث عن قصائد ناعمة ووافرة سطراً وطولاً ونعوتاً، حيث يمكن لك أن تأكل بشهية وتشبع. وربما فكّرتَ في استدعاء قبيلة قطط لتأكل إلى جوارك في مشهد سوريالي، خصوصاً إذا كانت السماء تمطر على مهل.
عكس شعراء قصيدة النثر الذين يتعقّبهم الإفلاس الفظيع والتذمّر
نعم، أنا معجبٌ بهؤلاء الشّعراء الملتزمين على طريقتهم بشعار "الشعر من أجل الشعر"، والذين لا يربطون مصيرهم بمجلّات الخليج العربي التي تدفع بسخاء. وليسوا مجبرين كي يشتغلوا في الصحافة الثقافية مثل بغالٍ حقيقية كي يسدّدوا فواتير الماء والكهرباء. أصلاً جاؤوا إلى الشعر بعدما ضمنوا استقراراً اجتماعياً مهمّاً. بعد سنّ الخمسين تقريباً، والاستفادة من التقاعد النسبي. بعد أن تبيّن الأولاد مصيرهم في الحياة. وبعد أداء مناسك الحج من طرف بعضهم الذي استحق لقب "الحاج الشاعر". وأقلّهم يملك بيتاً بطابقين وغرفة للكلب في السطح. يتدبّرون الأمور المادية في ما بينهم بلا حساب، فترى محافظ النقود تُفتَح على لمعان أوراق مئتيْ درهم، على عكس شعراء قصيدة النثر الذين يتعقّبهم الإفلاس الفظيع والتذمّر المجاني أينما حلّوا وارتحلوا. الذين بمجرّد ما أن يلتقيك أحدهم في أحد معارض الكتاب حتى تفكّر أنك ستقضي ليلتك في الاعتقال الاحتياطي مع القتلة وسلالة الهامش المرعب.
أُحبّ هؤلاء الشعراء البرجوازيّين الذين يعمّرون طويلاً ولا يموتون إلّا بحادثة سير يتحمّل مسؤوليتها السائق وحده. لا يدخّنون ولا يشربون ويملؤون العين شكلاً ونظافة بدل الساحة الثقافية لغطاً وضجيجاً. يُطوّرون هندامهم أكثر من أن يهتمّوا بتطوير نصّ القصيدة. أليس الهندام قصيدة حقيقية كما يقول الألمان؟ واقعيون أيضاً، ويتواصلون بلا تضخُّم الذات مع قرّائهم في مناسباتٍ عدّة طوال السنة. ولا يهم أن يتزاحموا أفقياً برؤوسهم في ملصقاتٍ شعرية. الأهم أن يقرؤوا الشّعر بالتتابع ويغادروا في سيارات نظيفة هي الأُخرى.
شعراء تسبقهم الطيبوبة وبياض السريرة. ولديهم استعداد كبير لتقديم الخدمة في الشعر وفي غير الشعر. بل بمجرّد ما أن تطرق باب أحدهم حتى يستخرج صورتك من بروفايل صفحتك ويحيطها بأشرطة ألوانٍ زاهية فيشعرك أنك تحتفل بعيد ميلادك لأوّل مرّة. ولتصير بفضل لمسته شاعراً كبيراً فتنسى حجمك الصغير الذي سّبب لك أعطالاً نفسية، وأديباً فذّاً دون أن تكون كتبتَ يومًا القصّة القصيرة ولا فكّرت في الرواية، عكس بعض شعراء قصيدة النثر المكرّسين الذين بمجرّد أن تقترب من محيطهم حتى يرى فيك خصماً خطيراً يهدّد المؤسّسة الشعرية العتيقة ولا يرعى أصول الانتظار.
وأريد أن أذكر هنا أحد هؤلاء الطيّبين الذي نصحني ذات عامٍ بأن أرتّبَ ملفّاً بسيرة ذاتية منفوخة وصور فتوغرافية التُقطت من زوايا جيّدة، ونُسخ من نصوصي، ثمّ أسلمّه الملف ليضعه في وزارة الخارجية على اعتبار أنّ هذه الأخيرة تصلها طلبات اقتراح أسماء الشعراء من مهرجانات الخليج العربي، حسب شرح الصديق. غير أنّني لم أفعلها حين لم أستوعب أن تتحوّل وزارة الخارجية المغربية إلى وكالة أشْعَار، وإن كنتُ قد ندمت في ما بعد. دون أن أحدّثكم طبعاً عن صديقي الذي انتقل من حالٍ إلى حالٍ، وصار هو الآخر وكيلاً شعرياً معتمَداً بالأقدمية.
للأمانة، كلّنا نحتاج في هذا الزمن القاسي إلى هذه القصائد الناعمة وهذه الحساسية الشعرية الطريّة التي تُساير خفّة العصر وايقاع العالم الجديد، وتتفوّق نصّاً ونهداً على كل الحساسيات الشعرية التي يروّج لها أصدقاؤنا النقّاد هذه الأيام.
نحتاج إلى أزرار الحرير وأغصان ريش النعام هذه كي ننسى فيافي ومغارات أدونيس المظلمة، وتفاصيل سعدي يوسف التي يصعب أن تتلمّسها دون ميكروسكوب... وكي نتخلّص من ظلال مجلّة "شعر"، من كلب شارلز بوكوفسكي وجحيمه... أن نترجل عن مركب رامبو ونخطو منتبهين صوب من يُشعروننا أنّنا رائعون وعلى الدرب سائرون، نحن الذين نجرّ خلفنا أرشيفاً ضخماً من الشعور بالظلم والإحساس بالمهانة.
* شاعر من المغرب