حفنةُ زَهرٍ بيدِ الموت
أعمارُنا يعدو بها حِصانٌ لاهثٌ بينَ ماءٍ ونار،
وسرجُهُ المائِلُ، ما نتعلّقُ به من نجاة.
أسماؤنا صيحات من وقعوا ومن لم يعثُر عليهم أحد،
وأيامنا، هذا الرملُ النازلُ من أعلى الزجاجة إلى قَعرها.
هكذا فجأةً نتناقصُ
كأنَّنا حفنةُ زَهرٍ بيدِ الموت
وكُلّما غَفلنا
تبسَّم في الخفاء،
ونفخَ علينا سُمومه.
■ ■ ■
أُبادُ على مهلٍ
مِن أيّ سديمٍ يتصارعُ مع سديمٍ
تأتي هذه الأصواتُ وهذا العَصفُ
وهذا الفتور الذي يذوّبُ الجَسدَ مثلَ رغوةٍ في ماء.
كأنَّني أُبادُ على مهلٍ ولا أدري
وكلُّ شيءٍ جَرى من تحت قدميّ ولم أنتبه،
هكذا ينبّهني جِرذٌ يقرظُ ملابسي البائدة
أو تهوي لوحتي وتَضيع حروفها في محاجرِ الأرض،
هكذا أنتبهُ أنَّني في هذه اللحظة، على مقربةٍ من نهايةٍ ما
لكن لا أدري أيّ نهايةٍ تكون
وأيّ مخرج طوارئ سينفعُ هذا المنديل الذي أُسمّيه جسدًا
حيثُ لا أحد يحمله معي
ولا ريح تُعينني عليه.
أحتاجُ سريرًا ووسادة
ومترًا من هذا الفسيح كي أتمدّد
وأتفرّج على انقراضي.
■ ■ ■
تحت أرجل المغول
يا سيّدي،
أنا الهاطل من عينِ كلّ طفلٍ لا سريرَ له في البيت
ولا دفتر يرسم فيه أحلامَهُ بعد يقظة الظهيرة،
الطفلُ بائعُ المناديلِ الذي كسّرت جمجمتهُ مزاميرُ العَربات
الطفل المصلوب وسطَ الشارعِ نَهارًا وبضعة قرون
الطفلُ الذي مأواه الحجارةُ، وطريقهُ محفوف بالكلاب،
فلا أدري كيف يمكن أن تجدني في مكانٍ آخر غير هذا؟
غدنا مسحوقٌ تحت أرجلِ المَغول
وبجنازير أميركا
غدنا رمادٌ يُناثِرهُ سادةُ الجنّة في مياهِ دجلة
وليس لنا حتّى جحيمَنا الخاص.
يا سيّدي
أنا محشورٌ في حنجرةِ كلّ مهضوم
وذلك العويلُ المجرِّحُ
يخرجُ منّي.
■ ■ ■
فلتنم فيها إذن
هذه ليست بابًا واحدة
خلفها كونٌ من الأبوابِ والمقابضِ الحَجريّة.
هل ترى الضوءَ من تحتها؟
يأتي ولا يأتي.
هل تسمع الصدى عبرها؟
بشرٌ، أطيافٌ، هذيانٌ على مشنقة الوقت.
والمفاتيح؟
تتدلّى من خصر السراب
الذي يلهو في شارعٍ مهجورٍ وقفارٍ مستحيلة.
هذه ليست بابًا واحدة
إنَّها جدرانٌ، لا مقابضَ ولا مفاتيح
فمن ذا الذي يُعيرني مِطرقَتَكَ يا "ثَور"
من الذي ينجدني بالبرقِ كي أُهدّمها!
إنَّها جدرانُك إذن،
فلْتنم فيها إلى رحمة الله.
■ ■ ■
هكذا تُحسب الحياة
ما قطعنا كلَّ هذا الليل والصُراخ وصلوات العائلة
كي نعودَ بذاتِ الثياب،
نظيفةً وبيضاءَ
مثلَ مئزرِ الملاكِ الخارجِ من مُستحمِّه وماشيًا في سماواتٍ بعيدة.
النياشين: عروةُ القَميصِ تشهقُ طين البلاد.
الرُتب: ما حملتهُ الأكتافُ من صَخرٍ ولحمٍ وتوابيت.
والعطرُ: هنا رشّةُ البارود لحربٍ ما انتهت،
هنا لمسةٌ من ثيابِ امرأةٍ فجَّرتْ في ثيابي عيون المسك.
هكذا تُحسب الحياة، أو تُقاس.
آهٍ يا حياتي
كم عليّ أنْ أسأل عن قِطعِ ثيابي أين تناثرتْ
وكم عليّ أن أُفاوض الطّين والشوك والسُخام
كي يغادروني.
■ ■ ■
ولو فَنى صوتي
بأيِّ مطرقةٍ سأكسرُ رؤوسَ هذهِ الأصنام؟
لستُ نبيًّا يدخلُ كعبته منتصرًا
ولا يحفُّ بي أقرباءٌ ولا جنود
وليسَ بيدي عصاةٌ كلَّما أَشَرتُ بها على صَنمٍ تهشَّم،
لستُ سوى بالذي قال "لا"
لهذا السيل الجارِف من "النّعم"
فلم يسمعه أحد، وكان صراخه في عَراءٍ أصمّ.
عالقٌ في أمَّةٍ خاضعةٍ
وأرضٍ من الدسائسِ والكمائنِ والنِّصال.
عالقٌ بين زنازين الكَهنة، ودهاليز المُقدَّسين
وحدائق من الصَمغِ تُباركها آلهةٌ على حقّ،
وهل أقول، حتّى الهواءُ هنا خاضعٌ ولا يعترض
وإلّا فمن الذي يَحمِلُ هذه الكائنات المتوحشَةِ من الخيوط
ويلصقها على فمي،
وهذه الأكياس الهائلة من الخيبة يلطمها بعيني ويَعميها!
سأظلُّ أصرخُ حتى أُفتِّتَ هذه الأصنام ولو فَنى صوتي
وأظلُّ أنبش حتى أجد المصباح،
في هذه الوحلة المُظلمة.
* شاعر من العراق