إلى نادو
بطاقة بريد
رأيتُ صفصافةً تدخلُ في خيمةٍ
رأيتُ جدولَ ماء يستجمعُ قواهُ ليلحقَ بقريته التي هاجَرتْ
رأيتُ طفلةً تفتحُ عينينِ كسَماءٍ يَفطُرها برقٌ
رأيتُ جيلاً يفتِّش في أكياس الطّحين عن حياته
رأيتُ حارات وأزقّة تهرولُ وراءَ نازحين
ورأيتُ قمراً يتمرَّى خلفَ غيومِ دخانٍ تتصاعد مِن لُفافة تبغٍ
في اللّيل العميقِ الّذي يلفُّ معسكرَ لاجئين قرب الموصل.
■ ■ ■
أسئلة
أسئلةٌ تخلطُ الأزمنة مثلَ الغسيلِ في طَشت
وتعلسُ الكينونةَ بهدوءٍ وقدسيّة
كالبرسيم بين أشداق أبقار هنديّة.
تبتلعُ كلَّ شيء تصيرُ رِقاباً تتدلّى،
أطفالاً يبولونَ أعمارَهم في مخيّمات زرائب
وباءٌ يحصد الملايين على لسانِ قصّخون
شعوباً تتهاوى كالأشجار الشائخة
ونساءً تُحرقُ كالأجساد الموبوءة في القرون الوسطى.
أسئلة تظلُّ مشرعةً كأبواب مُقتلعة
غُدرانٌ غيّرتْ مجاريها نحو الأعلى
خزّانات صدئة لمياه الشّرب
تطوف حولها قرى الفرات في مواسم الجفاف
وتمارين صارت أسناناً ذهبيةً
لمجاعاتِنا.
نادو؛
أين ستُدفنُ الأسئلةُ التي تموت كلّ لحظة
ماذا سنكتب على شواهدها
وهل ستكون أجسادُنا
الأزهارَ البلاستيكيّة التي تُزيّنُ مقابرها.
■ ■ ■
الضريح
كان ليلاً وكانت الأشجار تنزفُ
بقعَ دمٍ عُشبيّ على مدرّجات الحديقة
أجسُّ نبضَ خطاها تركض فوق الإسلفت
الليلُ فهدٌ عيناه نجمتان ميتتان
رأسهُ موقدُ نار قديمة تتستًرُ برمادها
للخروج إليه طليقةً
ليلٌ يتسلّق الجبالَ كبغال المقاتلينَ
يختبئ في الكهوف والمغاور
في تجاويف الارتعاشات والوجيف
ويتسرّبُ إلى مسام جسدها
لا يشبههُ شيء
إلّا غيابُها.
كانت تركض... تركض
أطاحتْ دون أن تدري بأسوار
واقتلعتْ غاباتٍ
ضاحكةً كساقيةٍ في حلم فلّاح جنوبي
قضى جندياً في خندق.
كلُّ خطوةٍ مصبٌّ
والجسدُ نهرٌ يتدفّق في لا اتّجاه
صوتُها رنينٌ أصمُّ
لا يُفصحُ عن فتوحاتٍ منكسرةٍ
ولا عن نجوى الله يعتذر للخليقة.
تحت سماواتٍ تُخفيها بالتفاتةٍ
واستعارةِ جسدٍ مكتوم
تُصغي إلى فحيح لغتي
عاشقةٌ في معبد إينانا
لا حوريةٌ في جنائن محمد بن عبد الله
أنا نوتيُّ بحرٍ في حقيبتها اليدوية
كلّما فكّرتْ بالرّحيل.
سفينٌ عظيمةٌ تطفو في بركة راكدة
تضجُّ بنقيق ضفادعها وعُشبيّاتها.
■ ■ ■
بورتريه
ستُمشّطُ خصلاتِ شَعرها
التي جزّتها كعناقيد كرومٍ مُحرّمة.
فوق جِيدها أنهارٌ جفّتْ
وغيومٌ شرقيّةٌ ملبّدة.
فصوصُ قلائدها من ذهب المرارات
ثوبُها مطرّزٌ بالسهوبِ الخفيضة.
اللغةُ إسفنجةٌ مبلّلة
بالدّمع والدّم.
المنديل الذي تلتحف به قصاصات صفراء
اقتطعتها من تفاسير الغرماء في الله،
وتعاويذ طلسميّة
لحماية العذرية الدائمة للحور.
ولها
احتمالُ الآلهة في القشعريرة.
■ ■ ■
إيثاكا
كلُّ خطوةٍ جزيرة
والبحرُ أنا.
أيتها الأشرعةُ يا دماً أبيضَ
يا جناحاً يخفقُ كقلبِ جنينٍ ساعةَ الولادة
يا قطافاً أمرَّ من جفاف الدّماء في الأساطير
هذا أوانُ الطّواف والهجرة المستحيلة.
لا شاطئَ، لا مدّ لبحرٍ لا يعرفُ الضياع.
إنها الغيومُ... الغيومُ
آهٍ من تلك الّتي نتأبّطها في الغرف
بعد أنْ غرقتْ مراسي الوصول...
حبيبتي،
أين تخبّئين سماءكِ التي تهطلُ عليّ الآن
أين تُخفينَ شمسَكِ التي مطالِعُها في حنجرتك
يا لخنجرِ الصمتِ ينزف بين أناملك
ويا لألوانِ القُزح تتوارى تحت هُدبيكِ.
لأقداحك الأمواجُ العالية
ولرحيلكِ جسدي صاريةُ هبوب أخير
أنا الذي يقود خطاك
بين جثث الليالي الممدّدة سنيناً بينك وبيني...
وليس لي إيثاكا.
■ ■ ■
جغرافية
الجغرافية معلّقة في خزانة الملابس
مع الفساتين المحظورة
نادو تستبدلُ تنّورتَها الموشّاةَ بالآبار المردومة وسيوف العسس المخصيّ
بحدائق القصر الملكي في فونتان بلو
تتركُ البحيرةَ تتهدّلُ فوق ركبتيها
لترى الجدران تحني ظهورها
والسهام تتكسّرُ في سوراتها.
تماثيل العشّاق التي تغطّ في نوم القرون
تستفيق عند مرورها
أميرات القصر الأمبراطوري
اللائي عفّرهنَّ الثوّار يوم تساقطت الرؤوس
كحبّات العنب المتعفّن في ساحات باريس
يحملنَ ذيل ثوبها
التروبادور والموريسكيون وغجر غرناطة
ينشدونها أغاني الأندلس المضاعة
والغيوم العابرة جنوباً
تتلفتُ…
المرويّات والأسانيد في خزائن الماضي
تتقافز مع مسوّدات القصائد
كالضفادع
في بركةٍ عظيمة اسمها الشرق.
* شاعر من العراق