"ما أطيبَ العيش لو أنّ الفتى حجر". قلقٌ معاصِرٌ يهبّ من كلمات تميم بن مقبِل (657 - 554)، الشاعر المنقسمُ بين عصرين، وبين ذاتيّتين: الجاهليّة والإسلام.
تسري صرختُه كقشعريرةٍ في جسد الصحراء. صرخة مكتومة لذاتٍ توّاقة إلى تحجُّرِها، و إلى انعتاقِها من سيولتِها المزمِنة، اللانهائيّة، المُنهِكة. ذاتٌ تهفو إلى تلذّذها الحجريّ المغلق بإحكام، الخالي من الآخَر، تلذُّذَ كائنٍ مفرِطٍ في صلابته. "تنبو عنهُ الحوادِثُ وهو ملمومُ"، غير مُتصدِّعٍ ولا مُفتّت. تتخيّل الذات المثقَلة بإنسانيّتها لذّةً قويّةً كموت، "لا تنزل الأحزان ساحتها"، لا يمسُّها شوقٌ أو نُقصان أو احتياج. كأنّ صرختَه نسخةٌ رمليّةٌ مبكّرة للوحة الرسّام النرويجيّ إدوارد مونك.
القلق الوجوديّ كنداءٍ أخرس، متجمّدٍ، متشبّثٍ بهاويةٍ من غروب، (من اللافت أن مونك صَنَعَ أيضاً نسخةً حجريّةً من لوحتِه).
الشاعر، المؤتمن على مقايضة العَيْش بالكلام، يتلذّذُ على سكوتهِ، على إطفاء محرّك ذاتيّته الهجينة، على موت لغته العربية، على موتِه كذاتٍ عربيّةٍ متكلّمة. يفيضُ غربةً تغرِقُ ضفافَه، ووحشةً تَحرِق أخضره ويابسه.
إلّا أنه يعرف، في خضمّ يأسه الإنسانيّ أنّ خلاصَه الوحيد في الكلام. الكلام أو الموت، بتعبير المحلّل النفسيّ العربيّ اللاكانيّ مصطفى صفوان. الكلام الذي يأخذ بيد الإنسان نحو رغبته الأصيلة، و يَستلُّ وجوده من حدودِه كما يُستلّ سيفٌ قاطِعٌ من غمده.
* شاعر واختصاصي نفسي عِيادي من فلسطين