في نهاية التسعينيات، تلك الفترةُ التي عاشت فيها السينما الجزائريةُ أوقاتاً حالكةً تلت "عصراً ذهبياً" شهدته بين ستّينيات وثمانينيّات القرن الماضي، كانَ المشهدُ السينمائيُّ المتوقّفُ تقريباً يَستعدُّ لحدوث اختراق.
نحن في العام 1997. يبدو ألّا وقتَ للفنّ السابع في الجزائر التي كانت لا تزال تعيشُ على وقع أزمة أمنية تُواصل حصد الآلاف من الضحايا. غيرَ أنَّ المُخرِج الجزائري الراحل عز الدين مدُّور (1947 - 2000) كان، في تلك الأثناء، يضع لمساته الأخيرة على فيلمه الروائيَّ الطويل الأوّل "جبل باية"، والذي سيكون ثاني عملٍ سينمائيّ باللغة الأمازيغية في الجزائر بعد "الربوة المنسيّة" الذي أخرجه عبد الرحمن بوقرموح قبل سنة من ذلك.
في الستّينيات، غادر مدّور مسقط رأسه؛ قريةَ سيدي عيش بولاية بجاية، شمال شرق البلاد، إلى الجزائر العاصمة لدراسة الأدب الفرنسي في "جامعة الجزائر"، ثمّ في مطلع السبعينيات، إلى موسكو لدراسة السينما في جامعتها. وبعد عودته عام 1976، أخرجَ مجموعةً مِن الأفلام الوثائقية التي أنتجتها "المؤسّسة الوطنية للإنتاج السمعي البصري"؛ مِن بينها: "الحروب الصليبية الجديدة" (1980)، و"الفتاة والفراشة" (1982)، و"بيننا" (1983)، و"كم أُحبّك" (1985)، و"وقائع وحقائق" (1990)، و"جرجرة" (1992)، و"ابن آوى الذهبي" (1993)، و"الوجع الصامت" (1998).
ومِثل فيلم عبد الرحمن بوقرموح (1936 - 2013)، المقتبَس عن رواية مولود معمري (1917 - 1989)، الشهيرة التي تحمل العنوان نفسه، تدُور أحداثُ فيلم مدُّور - الذي كتبَ نصّه بالاشتراك مع الفرنسي جان- بيير ليدو - في منطقةِ القبائل، إنّما في زمنٍ أقدم (العملان مِن بطولةِ الممثّلة جميلة أمزال التي تأخذُ مساحةً مركزيةً في ملصقَيهما). في "الربوة المنسية"، قصّةُ قريةٍ أمازيغية منسيةٍ خلال الأربعينيّات يتذكّرُها جيش الاحتلال الفرنسيّ الذي يسعى لتجنيد شبابها للمشاركة في الحرب العالمية الثانية. أمّا "جبل باية"، فيعود إلى سنواتِ الاحتلال الأُولى، مِن خلال حكايةِ امرأةٍ يَقتُل مُتيَّمٌ بها مِن المتعاونِين مع الاستعمار زوجها على مرأىً مِن عينيها، ثُمّ يُحاول أبناءُ قريتها الاستيلاء على ديّةٍ تحصلُ عليها مِن والد القاتل.
أدّى انفجارٌ أحدثه خطأ تقني إلى مقتل 13 شخصاً خلال تصوير الفيلم
حقَّق "جبل باية" نجاحاً مُلفتاً، وفاز بجائزة أفضل فيلم روائيّ طويل في "المهرجان الدولي لسينما البحر الأبيض المتوسّط" في مدينة تطوان المغربية عام 1999، والذي سيُطلَق اسمَ عز الدين مدُّور على جائزة لجنةِ التحكيم بعد رحيل المخرج الذي غادر مِن دون أنْ يشهد ما حقّقه فيلمه مِن نجاحات كانت وراءَها قصّةٌ دراماتيكية؛ فقد أدّى انفجارٌ أحدثه خطأ تقني إلى مقتل 13 شخصاً خلال تصوير العمل، وهو ما أخّرَ خروجه إلى قاعات السينما، وحال دون مشاركته في مهرجانات خارج الجزائر، وكان له أثرٌ نفسي بالغ على مدُّور الذي سيرحل بعد أقلّ مِن ثلاث سنواتٍ مِن ذلك.
في معرضٍ ثُنائي، انطلق الثلاثاء الماضي ويستمرُّ حتى الثامن عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري في "المركز الثقافي مصطفى كاتب" بالجزائر العاصمة، يستعيد الفنّان التشكيلي الجزائري كمال بلّطرش "جبل باية" مِن خلال تقنية "مخطَّط القصّة" Storyboard؛ حيثُ يضمُّ المعرضُ سلسلةً من اللوحات المائية التي تُشكّل رسوماتٍ تعبيرية تُجسّد جزءاً من لقطات الفيلم، والتي جرى ترتيبُها وفق التسلسُل الزمني لأحداثه. كما تُبرز اللوحاتُ، أيضاً، أجواءَ الفيلم الاجتماعية والثقافية، والعناصر التاريخية والتراثية التي شكَّلت جزءاً أساسياً مِنه.
يعمل بلّطرش، الذي درس في "أكاديمية الفنون التشكيلية" بموسكو، في مجال السينوغرافيا بالتلفزيون الجزائري، وقد تعاوُن مع عز الدين مدُّور الذي اعتمد في إنجاز فيلمه على جزءٍ من المخطّطات التي أُنجزت بداية التسعينيات بعد سنتَين من الاشتغال والبحث في خصائص المنطقة؛ من رموز وطقوس احتفالية وأزياء وحليّ وعمارة ومشغولات تقليدية.
يضمُّ المعرضُ قرابة أربعين لوحةً يُخصّص بلّطرش جانباً آخر منها للأزياء التقليدية الجزائرية، وهو الموضوع الذي يحضر أيضاً في لوحاتٌ زوجته التشكيلية الجزائرية ماريا إلتسوفا، التي تُشاركه المعرض، والتي ترسمُ مشاهدَ يوميةً من حيّ القصبة في الجزائر العاصمة ومدينتَي غرداية وتمنراست في الجنوب تحضر فيها النساء بملابسهنّ التقليدية خلال يومياتهن، أو بزينتهنّ ورقصاتهنّ وآلاتهن الموسيقيّة خلال الأجواء الاحتفالية.