في كتابه "استحضار المكان: دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر"، نظّر كمال بُلّاطه لتلك العلاقة الرَّحِمية بينه وبين مدينته، القدس، وبين كلّ فنان فلسطيني ومكانه المتحقّق أو المتخيّل. فمَن سكن بالقرب من الأرض كانت لوحاته تصويرية، ومَن ابتعد عنها كانت لوحاته تجريدية، فيما سعى الفنّانون المنفيّون إلى اختراق البُعد الذي يفصلهم عن أماكن ولادتهم.
من منظور فلسفيٍّ وتاريخيّ وجماليّ، رأى بُلّاطه فلسطين متجذّرة بإرثها البيزنطي العربي الإسلامي، ما جعل التفكير في وحدة المكان والعبور فيه من دون حدود أو تجزئة يستحوذ على النتاجات البصرية بعد نكبة عام 1948، التي تنسج صلاتها الحقيقية مع الشعر والثقافة والمجتمع في استعارات مرئية؛ خلاصة مكّنته من تأصيل المسافة بين فلسطين والفلسطيني في عملية خلق العمل الفنّي، ولا تزال تشكّل حجر الأساس لقراءتها.
تلتقي هذه الخلفية مع رؤية المعرض الاستعادي للفنان والناقد والمؤرّخ الفنّي الفلسطيني (1942-2019)، الذي افتُتح في "غاليري بانكو" ببرلين، في أيلول/سبتمبر الماضي، تحت عنوان "هندسة الضوء"، ويتواصل حتى السابع من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري.
مثّلت القدس أساس رؤيته للفن وأداة تطويره معاً
تبحث أستاذة الدراسات الكلاسيكية الآسيوية والشرقية، إليزابيث كي فودن، في حضور الدائرة ضمن تجربة بُلّاطه، حيث تُشير في تقديم المعرض إلى أنها راسلته حول الأمر، ليعيدها بدوره إلى ثلاث مطبوعات بتقنية الشاشة الحريرية نفّذها عام 1978، وتتضمّن دائرة مكوّنة من كلمتين: "هنا" و"الآن"، مكرّرتين بالخطّ الكوفي. وتضيف أنها ذكّرته، حينها، بمحاضرة له اقتبست منها: "أنا الوحيد الذي يستمرّ في الدوران. الدائرة لم تعد أبداً إلى عملي".
حوار قاد فودن إلى طرح تساؤل أساسيّ حول عدم عودة الفنان إلى الاشتغال على الدائرة، وإن كان "احتاج عملاً واحداً لقول كلّ ما يريد قوله بصرياً". لكنّ الإجابة تستدعي العودة إلى كتاباته، على حدّ قولها، حيث بدت هذه التشكيلات الهندسية مألوفةً منذ طفولته، وهو الذي كتب عنها عام 1989، معتبراً أن آثار القدس لها خطّة بناء متطابقة تستند إلى "دوران مربّعين محصورين داخل دائرة ويتقاطعان بزاوية 45 درجة"، جسّدت بالنسبة إليه أساساً وأدة لتطوير الفن.
وتخلص فودن إلى أن هذه الدائرة المخفية أو الواضحة تمثّل الكمال الإلهي، وهي سُرّة الأرض بوصفها النقطة الثابتة التي يدور حولها العالم، وعبّر عن ذلك العمل المنفَّذ بطباعة الشاشة الحريرية والذي عنْوَنه بُلّاطه بـ"ماندالا"، مستحضراً الكلمة السنسيكريتية التي تعني دائرة؛ الصورة الهندسية التي تُحيل إلى النظام الكوني، بتناظرها مع المربع، وهي دائرة مثالية وحيدة في هذا المعرض.
أمّا المؤرّخ الفني هانز بيلتينغ، فيعود إلى هزيمة حزيران/يونيو عام 1967، حين كان بُلّاطه في رحلة إلى بيروت، ومُنع منذ تلك اللحظة من العودة إلى وطنه، لتصبح القدس ذاكرة منفاه وحلماً يُلهمه لإعادة خلق روحها الخالدة. وباتت المدينة عند الفنان مركزاً لذلك الارتباط العضوي بين بيزنطة والإسلام، من خلال تمثيل التعايش في نظام جمالي خاص به، يندمج فيه الشكل الأيقوني والإسلامي في خطوطه وبناء أنماط عمله.
أسّس لنظام جمالي خاص به من وحدة الفنين البيزنطي والإسلامي
ويتوقّف عند معرضه "سرّة الأرض"، الذي أقيم في عمّان سنة 1998، وقدّم خلاله لوحتين استوحاهما من مكان واحد في القدس؛ في الأولى يستحضر معراج النبي محمد إلى السماء، بعد رحلة الإسراء إلى الأقصى، والثانية تصوّر صعود المسيح إلى السماء أيضاً. وتَبرز في كلا العملين سلسلة من المربّعات المتداخلة تختفي في الفراغ أو تدور بطريقة تُماثل ظلّ الأفق وراءها، بما يوحي بتقادم الزمن، في حين يرمز المربّع إلى استقرار الأرض في نظام كوني تلتقي فيه بالسماء.
من جهتها، تقرأ أستاذة الفن الحديث والمعاصر، بورجو دوراماجي، دلالات الألوان في أعمال بُلّاطه، حيث ينتج استخدامه للأزرق والأحمر والأصفر، أو الأحمر والأزرق فقط، محاطةً بظلال سوداء وبيضاء، إحساساً بالعمق المكاني إذا شاهدنا العمل من مسافة بعيدة. وعلى النقيض من ذلك، فإنها- عند النظر إليها عن قرب- تتكشّف بوضوح عن طبقات متعدّدة، كوّنها فوق بعضها بعضاً عبر استخدام ضربات الفرشاة بحرّيةٍ.
ويلفت بيان المعرض إلى أن عملية تصميم طويلة ودقيقة مع العديد من الرسومات والدراسات سبقت ولادة هذه الأعمال الإبداعية، وتمّ الشغل عليها وإنجازها لاحقاً، رسْماً بالألوان المائية أو الأكريليك على القماش. واللوحات بدورها تشكّل سلاسل ومجموعات حدّد الفنان عددها أو تعدُّدها وفقاً لمنطق معيّن.
كما يوضح البيان أن أعمال السيرغراف تبدو كثيفة الألوان، وهي الأعمال التي أنجزها بُلّاطه في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وكأنها نسيج من كلمات مقدّسة وقد تحوّلت إلى تعبير بصري. فبناءً على استقصائه للخط الكوفيّ الحادّ وإمكاناته، تبتكر لوحات كمال بُلّاطه القائمة على الكلمة/الصورة دلالاتٍ جديدةً كلّياً، تحوّل رائيها إلى قارئ في الوقت نفسه.
أخفى دائرة في مربعاته المتداخلة ترمز إلى مدينته القدس
تمثّل لوحات كمال بُلّاطه الهندسية التجريدية، التي أنتجها منذ مطلع التسعينيات، تطوّراً منطقياً إضافياً لمجموعة "الكلمة/الصورة". حيث تشكّل الأسطح الغنية بالتفاصيل اللونية، المضيئة تقريباً من داخلها، والتي تنشأ من خطوط متقاطعة أو متداخلة، تركيبات شبه موسيقية تُذكّر بمناظر طبيعية فِعلية أو مستبطَنة، وتبدو ممتدّة في الكون، كما يوحي مظهرها الكروي. ويبلغ هذا الاشتغال ذروته في سلسلة "الصَّلاة المثلَّثة"، التي أنجزها في برلين عام 2017، مضافاً إليها سلسلة أعمال بألوان مائية.
في "هندسة الضوء"، تُدرَس تجربة بُلّاطه في ثلاثة مسارات رئيسية: تنظيره الفلسفي الذي دوّنه في محاضرات ومقالات خلال أكثر من أربعين عاماً؛ ومعرفته العميقة بتاريخ الفن الإسلامي وصلاته الوثيقة مع الفنون الهلنستية؛ ورؤيته الجمالية التي انعكست في التقنيات التي استخدمها، وتوظيفه للأشكال والحروفيات والرموز ومطابقتها لخلاصات مشروعه الفكري والفنّي.