مع انتهاج الجزائر سياسة ترشيد النفقات في 2014 بفعل تداعيات انهيار أسعار النفط، رفعَت الحكومة يديها عن تمويل نشر الكتب الذي استمرّ منذ 2007. نتيجةً لذلك، اختفى عشرات من ناشري القطاع الخاص الذين استفادوا، في سنوات البحبوحة المالية، من "صناديق الدعم" التي تُموّلها وزارة الثقافة، بعضُهم كان يملك أكثر من دار نشر، وكثيرٌ منهم كان يكتفي بإعادة طبع كتب قديمة، باستعمال تقنية المسح الضوئي.
في المقابل، لم تَظهر سوى القليل من دور النشر الجديدة؛ ومن بينها "دار الوطن اليوم" التي أسّسها كمال قرور، أحد الأصوات البارزة في المشهد الأدبي الجزائري.
أصدر قرور (1966) عدداً من الروايات والمجموعات القصصية؛ من بينها: "الترّاس: ملحمة الفارس الذي اختفى" التي حازت "جائزة مالك حدّاد للرواية" في 2008، و"امرأة في سروال رجل" (2009)، و"سيد الخراب" (2012)، و"حضرة الجنرال" (2015).
في ظلّ توقُّف التمويل الحكومي وغياب شبكاتٍ لتوزيع الكتب وتراجُع أعداد المكتبات حتى كادت تختفي تماماً، يبدو التفكير في دخول مجال النشر أقرب إلى المغامرة المحفوفة بالمخاطر، وهو ما يُدركه قرور جيّداً بحكم تجربته؛ هو الذي دخل عالَم النشر مبكّراً.
يعتبر أنّ الهدف من مشروعه هو إعادة القارئ إلى متعة الكتاب
أسّس قرور "دار الفارابي" سنة 1993. حينها، كان في السابعة والعشرين من عمره، وكان البلد يغرق في الفوضى والدم. سيُعجّل انعدام الخبرة وتدهور الوضع الأمني بتوقّف المشروع، بعد ثلاث سنوات نشر خلالها عشرين عملاً.
يتحدّث صاحب "الترّاس" إلى "العربي الجديد" عن ظروف النشر حينها، قائلاً إن الخوف، الذي خيّم على حياة الجزائريّين، في التسعينيّات، جعل من الكتاب رفاهيةً لا يطلبها سوى قليلين، مُضيفاً أن العمل في المطابع والتنقّل والتوزيع لم تكن أموراً سهلة.
ويستعيدُ قرور حادثة حجز عملٍ أدبي كان يعتزم نشره: "طلبتُ من صديق يعمل سائق أجرة أن يُحضر لي مخطوط روايةٍ من محافظة سطيف (شرق الجزائر) إلى العاصمة. لكن حاجزاً للجيش أوقفه في الطريق، واحتجز المخطوط".
تحمل الرواية عنوان "فخّ في تل أبيب"، وتروي قصّة جاسوس جزائري يفرّ إلى "إسرائيل" خلال حرب أكتوبر 1973. وقد صدرت في السبعينيات باللغة الفرنسية لكاتبٍ مغمور يُدعى عبد العزيز العمراني، قبل أن يُترجمها الكاتب أحسن ثليلاني إلى العربية، ويُقدّمها إلى "دار الفارابي" التي اعتزمت إصدارها ضمن سلسلةٍ بوليسية مترجَمة.
"بسبب عنوان الرواية ومضمونها، اعتقدَت عناصر الجيش أنها اكتشفت خليّة جوسسة لها علاقةٌ بـ'إسرائيل' والإرهاب. بعضُهم خاطبني قائلاً: هل تعلم أنّ مصيرك هو الإعدام؟"، يقول قرور الذي كان عليه خوض رحلة مضنية لاستعادة المخطوط وإزالة اللبس القائم. و"لحسن الحظّ، انتهت الحادثة بسلام، بعد تأكّدهم بأن في الأمر سوء فهم. غير أن أحد أقاربي لا يزال يعتبرني جاسوساً إلى اليوم"، يُضيف ضاحكاً.
كانت تلك واحدةً من "التجارب السيّئة" التي أدّت، في النهاية، إلى إيقاف المشروع برمّته. وبعد أكثر من عشرين عاماً قضاها بين الصحافة التي كادت تودي به إلى السجن مجدّداً، والتجارة التي أمّنت له وضعاً مالياً مريحاً، والكتابة الأدبية التي منحته حضوراً بارزاً في المشهد الثقافي، سيعود قرور إلى ما يعتبره هاجسه الأوّل: النشر.
في 2015، أسّس "دار الوطن اليوم"، انطلاقاً من فكرة نشر كتبٍ شعبية يُمكن حملها في الجيب وطبعها باستعمال ورق الصحف اليومية، وتوزيعها ضمن شبكات توزيع الصحف نفسها.
عرَض قرور مشروعه على جهاتٍ رسمية وجمعياتٍ مدنية، لكن أحداً لم يتحمّس للأمر. حينها، فكّر في تأسيس صحيفة يوميّة بالعنوان نفسه، تُصدِر ملاحق وسلاسل وكتباً دورية للكلاسيكيات الجزائرية والعالمية. غير أن الصحيفة لم تر النور بسبب عدم حصولها على ترخيصٍ قانوني، فتحوّل المشروع الإعلامي إلى دارٍ للنشر.
هكذا، سيمضي الروائي في مشروعه بالاعتماد على إمكانياته الشخصية، مُحاولاً أن تكون "الوطن اليوم" دار نشر متكاملةٍ تكتفي بنفسها في كلّ مراحل نشر الكتاب؛ بدءاً بالتصميم والطباعة، ووصولاً إلى التوزيع. ولم يكُن هذا التوجّه خياراً بقدر ما كان ضرورةً فرضَها تراجعُ الدعم الحكومي للكتاب إلى درجة الصفر، ورفضُ عددٍ من مطابع الصحف اليومية طبعَ كتب الجيب بمقاييس المشروع.
وبما أنّ الدار تأسّست من أجل تجسيد فكرة "كتاب الجيب الذي يُباع بسعر السندويتش"، وفق تعبير قرور، فقد بدأت عملَها بنشر سلسلة باسم "كتاب الجيب"، يُشرف عليها الشاعران نوّارة لحرش وناصر معماش والروائي الخير شوار، قبل أن تُصدر حديثاً سلسلة أُخرى بعنوان "أعلام الفكر". وخلال سبع سنوات، حجزت "الوطن اليوم" مكاناً لها بين دور النشر الجزائرية، بعد أن استقطبت أسماء من مختلف التخصّصات.
وبينما تتواصل إصداراتُها، افتتحت الدار مطبعةً خاصّة بها مجهّزة بأحدث الوسائل، كما عملت على إنجاز شبكة توزيع، مستفيدةً من شبكة الطرقات الجديدة في البلاد ووسائل التواصل الاجتماعي.
يقول قرور إن الهدف من المشروع هو إعادة القارئ إلى متعة الكتاب: "نسعى إلى تقديم ثقافتنا في كتبٍ صغيرة الحجم وقليلة الصفحات، لتكون مناسبة لعصر الإنترنت والشبكات الاجتماعية. من حقّ الجزائري أن يقرأ ثقافته والثقافة العربية والإنسانية. ومشروعنا يُحاول الإسهام في ذلك".