تشكل الرحلة التي قام بها البريطاني أ.و. كينغلك، مرجعا مهما في معرفة الأوروبيين بالشرق، وحتى وإن كانت هذه الرحلة، ليست من أقدم الرحلات، قام بها صاحبها وهو بعد في عنفوان الشباب عام 1833، إلا أنها تلقي الضوء وضاحا على الوضع العام لمنطقة الشرق الأوسط، وعلى فلسطين، تحديدا، وتعزز حق الفلسطيني في أرضه، قبل قيام دولة الاحتلال بأكثر من قرن من الزمان.
وتعتبر هذه الكتابات، التي أنجزها الرحالة الأوروبيون، باستقلال تام، أو بتوجيه من حكوماتهم المركزية، وثائق للترافع، وشهادة من الأجنبي والغريب، لعل المطبعين ودعاة التطبيع ومن سار في ركبهم، يتريثون قليلا، ويلقون نظرة إلى الخلف على التاريخ ومجرياته وحقائقه، كي يوقفوا ولو للحظة حمى الهرولة المستعرة اليوم في أكثر من جغرافيا عربية.
لم تلتبس الحقائق والشواهد أمام الرحالة البريطاني كينغلك، فقد قرأ الواقع الماثل أمامه، وترجمه إلى من بعثه إلى هذه الأرض. وينتهي كتابه/ رحلته "رحلة إلى الشرق" الذي نقله إلى العربية محمود العابدي، إلى تثبيت عروبة فلسطين، وإلى الاحتفاء بالتعدد الديني للقدس، حيث يجاور المسيحي المسلم، ويجاور المسلم اليهودي، في شبه ميثاق على التعايش الممكن على هذه الأرض المقدسة.
سأتخطى في هذا العرض، وصول كينغلك إلى لبنان بحرا، وتعرفه على الجو البيروتي في ذلك الوقت، وعلى الليدي ستانهوب، وما يحيط بهذه المرأة العجيبة من أحاديث وأعاجيب، وهي ابنة أحد اللوردات البريطانيين، حيث اتهمت بسبب حياتها الغرائبية بالجنون، وهي التهمة التي نفاها عنها الشاعر الفرنسي لامارتين، الذي قال إنها أبعد ما تكون عن الجنون.
هذه السيدة، التي كانت مولهة بشاب فرنسي، ستموت في 1839، وستدفن إلى جانبه، وسيكون موكب جنازتها مشهودا، حضره الفلاحون ودقت من أجله أجراس الكنائس في بيروت، وشارك القناصل الأوروبيون في دفنها. سأتخطى كل تلك التفاصيل، وأقف عند وصول كينغلك إلى القدس، هي لحظة ليست هينة في حياة "حاج مسيحي"، لأنها تقوده إلى الشواهد الحية لمرقد العذراء والطريق التي سار فيها المسيح، والمعراج الذي عرج منه الرسول.
يكتب: "كانت العذراء صامتة خاشعة، وقد حاولت جهدي أن أستعيد في هذه اللحظة صورة العذراء التي تخيلها الفنانون، ولكن جميع هذه الوجوه التي رسمتها يد الإنسان خبت وتضاءلت. حتى لم يبد لي واحد منها وأنا خاشع في قدس الأقداس. ولكن أمرك مطاع أيها الدين، فقد طلبت مني أن أخاف الله. وأن أكون تقيا في غير امتناع عن الحب. لقد أمرني الدين، وما اعتاد عليه أهل الدين، ان أستمع بخشوع، وان ألثم بخشوع الصخرة التي أمسكت بها العذراء. وقد خيل إلي وأنا ألمس ثوبها الدافئ العتيق أن نشوة انتابتني أزالت عني الحمى، انتصبت واقفا وأنا اشعر بأنني صحيح معافى، وقد تمثل العالم الدنيوي أمام ناظري شيئا محببا وأمرا مغريا. ولفت نظري الراهب الصالح وقد وقف أمامي يتلهى بمفتاحه بين أصابعه وليتبصر على استغراقي الطويل وتجلياتي المبهمة، ولما نهضت قادني إلى خارج الكنيسة وهو يحدثني عن غرفة الطعام بالدير وعن الوجبة القادمة، فأصغيت إليه بانتباه وسرور".
يرد اسم فلسطين، صريحا في رحلة كينغلك، وهو دليل قاطع على تاريخ البلاد وأحقية شعب فلسطين في أرضه. إن الرحالة البريطاني لا يستعمل كلمات مرادفة لفلسطين، بل يكتب الاسم كما هو معروف في التاريخ وفي الجغرافيا. لا وجود لشيء اسمه الدولة العبرية أو العبرانيين أو الدولة اليهودية، هناك فقط مسيحيون ومسلمون ويهود. يكتب "عندما تعود إلى فلسطين، ستجد بعض النبيذ اللبناني المعتق لتشرب نخب رهبان الأرض المقدسة، وتسكب بعضه على الأرض إكراما لهم على ما يستحقون، وبالرغم من أن هذا القطر المسكين يعيش وكانه في عالم الأموات إلا أننا سنشرب نخب كل راهب منهم، داعين لهم بطول العمر والحياة الصالحة".
نظرة على الرحلة
في التقديم القصير الذي صدّر به المترجم محمود العابدي رحلة كينغلك، يرسم الإطار العام وأجواء هذه الرحلة، يقول "قام كنغليك برحلته الشهيرة إلى المشرق العربي عام 1833-1834 عندما كانت الرحلات إلى هذه البلاد حلماً يراود كل فتى أوروبي. ولكن السياحة فيها كانت محفوفة بالمخاطر ولا يقوى عليها إلا من كانت تستهويه المجازفات والمخاطر، مع توفر نفقات الرحلة التي كان لا يطيقها إلا ذو السعة واليسر.
لقد توفرت هذه العوامل لصاحبنا كنغليك، فقام برحلته التي استغرقت نحو عام كامل وكان يرسل أخبارها بشكل رسائل إلى صديقه إليوت واربرتون Eliot Warburton الذي كان يزمع الرحيل إلى المشرق، فاستفاد منها في كتابه عن رحلته والذي سماه الهلال والصليب. كانت هذه المعلومات قَيِّمة شيقة سَجَّلَ فيها كينغلك المؤثرات والانطباعات التي تركتها في نفسه، من عادات أهل البلاد الذين زارهم واختلط بهم واطلع على أفكارهم وخَبِرَ تقاليدهم بأسلوب قصصي وصفي جذاب يأخذ بمجامع القلوب
ولم يكن القصد من هذا الكتاب الإشارة إلى مواقع أثرية أو تاريخية أو ضبط مسافات أو قياس أبعاد. إذ لم يكن القصد منه أن يكون دليلاً سياحياً، بل كان تسجيلاً لأحوال العرب ومجتمعهم في هذا الجزء من العالم العربي خلال الثلث الأول من القرن التاسع عشر.
ولهذا فقد تخاطفته الأيدي عندما نشر وأعيد طبعه ثلاث مرات في عام واحد وصادف من الرواج ما لم تصادفه نظائره وأشباهه من الكتب، باستثناء كتاب "سينا وفلسطين" لمؤلفه القس ستانلي. مع أن كينغلك كان يعتبر نكرة بين الرحالين البريطانيين. وله كتاب ممل عن حرب القرم في تسعة أجزاء ظهرت على التوالي في السنوات من 1863 حتى 1888 وبقي يُدَرَّس لطلبة المدارس الحربية إلى ما قبيل الحرب العالمية الأولى 1914-1918".
تأخر في الترجمة
يركز المؤرخ الفلسطيني الأردني محمود العابدي في مقدمة الترجمة هذه على الأهمية التي تكتسيها رحلة كينغلك، ويسجل باستغراب التأخر الشديد في ترجمتها إلى اللغة العربية، مستشعرا الأهمية الخاصة لهذه النصوص الرحلية في معرفة الرؤية المتحكمة في رحلات الأوروبيين وكيف كانوا ينظرون إلى المشرق عامة، وإلى فلسطين على الوجه الأخص.
يقول: "ومن المستغرب أنه لم يقدم أحدٌ من أبناء المشرق العربي على ترجمته ونشره للقائه أبناء بلده الذين كتب عنهم. وآمل أن أكون في إقدامي على نشره الآن مترجماً وملخصاً وملماً بكل ما يهم القارئ العربي بما يسد هذا النقص. وأرجو أن تكون هذه الرحلة الحلقة التالية لرحلة بركهارت سنة 1812 التي ترجمها السيد أنور عرفات ونشرتها باسم دائرة الثقافة والفنون سنة 1969. وأرجو أن أتمكن من نشر الحلقات التالية من هذه الرحلات".
حجاج بيت المقدس
لم يكن بوسع الرحالة الأوروبيين تجاهل الملمح الإسلامي الطاغي في القدس وفي غيرها من الأراضي الفلسطينية، حتى وإن كان تركيزهم الشديد على المعالم المسيحية المقدسة، في حين ركز بعضهم، خصوصا من البعثات الأميركية على تقضي الأثر العبراني في فلسطين.
وكل هذا مفهوم، ويمكن ربطه بالسياقات السياسية العامة التي أنتجت هذه الرحلات أو دفعت أصحابها إلى القيام بها. لكن مع ذلك، لا يمكن بأي حال، إلا ملاحظة هيمنة الحقيقة التاريخية والوقائع التي تمشي على الأرض في فلسطين، حيث كل الشواهد المادية والحية تؤكد على انتماء المجال العام إلى أرض واحدة وشعب واحد هو شعب فلسطين، بكل ما يحويه من ديانات سماوية ومن مسيحيين ومسلمين ويهود.
يقول كينغلك في شطر من رحلته "وفي اليوم التالي غادرنا دير سابا إلى بيت المقدس. لقد شعرت بالحماس الديني مرة واحدة إذ تملكتني النشوة الروحانية عندما ركعت في كنيسة العذراء بمدينة الناصرة. ولكني عجزت أن أستعيد هذا الشعور مرة أخرى في زيارتي لكنيسة القيامة في القدس. وصلت إلى القدس قبيل عيد الفصح فوجدتها تعج بالحجاج من سائر أنحاء العالم يحدوهم الشعور الديني للحضور إلى هذه المدينة على اختلاف أوطانهم وتباين جنسياتهم. وبمجرد وصولهم إليها دبَّ فيها النشاط وتجددت فيها الحياة".
حجيج في القدس وطاعون في القاهرة
يهب إلى القدس حجيج من مختلف أنحاء المعمور، ومن مختلف الكنائس، والغاية زيارة الأرض التي وطئتها أقدام المسيح، يقول "كان معظم الحجاج من أتباع الكنائس الأرثوذكسية واللاتينية والأرمنية جاؤوا يزورون البلاد التي وطئتها أقدام السيد المسيح. وكان من المفروض على الواحد منهم أن يحج إليها ولو مرة واحدة في العمر.
وكثير منهم كان قد نذر أن يأتي إليها والذين لم تساعدهم أحوالهم المادية كانوا يوفرون منذ زمن طويل دريهمات قليلة من دخلهم المحدود حتى استطاعوا أن يجمعوا المبلغ الكافي لهذه الغاية الشريفة. كان الزوار من البلاد المجاورة كمصر وسورية والأناضول واسطنبول والروملي حتى ومن ولايات الدانوب ومن روسيا.
وكان بعضهم يحضر معه بضائع مختلفة تمكنه أرباحها من تسديد نفقات زيارته هذه. وكان يرافقهم نساؤهم وأطفالهم. وللنساء إيمان عميق بالروحانيات، فكنَّ يحملن معهن أطفالهن إلى هذه الأرض المقدسة كي ينعم هؤلاء الصغار بالإيمان والحج، فحجة الطفل لا تكلف ما تكلفه حجة الكبير وإذا قام بها صغيراً سقطت عنه كبيراً".
وفي مكان آخر من رحلته يكتب: "يحتار الإنسان في تعليل هذه الدوافع الشديدة نحو إقبال الناس على المسيح بهذا المقياس الواسع سواء أكان ذلك ناشئاً عن تخيلات وهمية أم كان ناشئاً عن تفكير صحيح واختيار سليم. وعلى كل حال فالدخول في التفكير بالقيام بهذا الواجب وبالاستعداد له يكفيان لأن يكفيا حياة الإنسان فيصبح حاجاً حقيقياً. إذا سافر إلى الحج أو وصل إلى البلاد التي يحج إليها. إن حياته تتجه كلها نحو هذا الشعور الروحي.
لذلك كنت أرى الشوق قد بلغ أقصى حدوده في مثل هؤلاء الحجاج الذين تأخذهم النشوات الروحية. كانت مراكب الحجاج تنزل في ميناء يافا وقد جاءت كل طبقة من سكان أوروبا بسفينة خاصة بها، سفينة للنبلاء أبناء الأسر الشريفة وسفينة تحمل أدنى درجات المجتمع، كل منهما يحافظ على تقاليده وطرق معيشته.
وكان يجب أن يكون في كل سفينة كاهن يساعد ركابها على القيام بصلواتهم وتأدية طقوسهم. وكانت معظم السفن التي تنقل الحجاج يونانية. وكانت تعاني المشقات قبل أن تصل بهم إلى قرب الموانئ ولا سيما أن سفرها كان يتم في فصل الشتاء حتى يصل الحجاج إلى القدس قبيل عيد الفصح".
سيصل في رحلة العودة، إلى القاهرة، وهناك سيجد أن الطاعون منتشر في المدينة، لكنه رغم التحذيرات له بعدم الدخول، فإنه يجازف بذلك، يقول "وما كدت أنتهي من مصاعب السفر حتى جابهتني المصيبة الكبرى، ألا وهي الطاعون المتفشي في مصر، لقد وصلت إلى قرية شرقي المدينة وقابلني رجل يرتدي اللباس التركي. ثم تَبَيَّن لي أنه من أصل فرنسي وأخذ يحذرني من الطاعون ويمنعني من دخول المدينة. شكرته ولم أكترث، وعندما دخلت القاهرة اجتمعت بعثمان أفندي الذي يملك دوراً للإيجار وطلبت منه أن يؤجرني إحداها. وكان ذلك سهلا عليه في الوقت الذي لم يكن في البلاد سائح أوروبي سواي. وقد ارتسم الحزن على وجه عثمان فهو يعتقد أن الطاعون سوف لا يمهله إلا أياماً قصيرة.
ومن خلال حديثه ظهر لي أنه إسكتلندي المولد، وقدم إلى مصر شاباً في حملة فريزر سنة 1807 التي أخذ فيها أسيراً وحتى ينجو من الموت اعتنق الإسلام، وحمل على الاشتراك في الحملة على الوهابيين. ولما تم إخضاع الوهابيين عاد عثمان إلى مصر وقد أصبح من ذوي الأملاك وانضم إلى طبقة الأفندية ونجحت أعماله نجاحاً عظيماً، فقد حصل على المال والحريم والعز والمكانة المرموقة مع كل ذلك لم ينس مسقط رأسه. إنه يتشوق لكل ما هو إسكتلندي، حتى رف الكتب فإنه قطعة من مكتبة أدنبرة. وأخيراً مات عثمان بالطاعون".