ليلى موتلي في "هوام الليل": الشرط الأميركي للحياة

23 سبتمبر 2024
التعاطف إحدى السمات الأساسية التي تُشجّع عليها الرواية
+ الخط -

يحضر إلى ذهن قارئ رواية "هَوام الليل" للكاتبة الأميركية ليلى موتلي (2002) مشهد مقتل جورج فلويد، الأميركي الأسود الذي أخذَ يرجو الشرطي وهو ينازع الموت: "لا أستطيع التنفس". الموضوع في الرواية الصادرة حديثاً عن "دار فواصل" بترجمة عزّة حسون؛ هو فساد الشرطة الأميركية. لكنّه ليس فساداً مجرّداً، بل إنّه اجتماع شرور العنصرية، والعنف، والتردّي القانوني.

في السياق ذاته يرتسم موقع الرواية، إذ نعرف أنّها كُتبت إثر حادثة استغلال جنسي لشابّة من قبل شرطة أوكلاند عام 2015. موتلي كانت مراهقة آنذاك، ويفهم المرء كيف تصنع أزماتٌ من هذا النوع مسوّغات الكتابة، إذ نما شعورٌ لدى الكاتبة بأنّها غير محمية، وبأنّها مضطهدة، وبأنّ الكثير من الغرابة تغلّف الحياة حولها. على هذا النحو، تصبح الكتابة محاولةً للفهم، تعريةً للواقع ووقوفاً عليه، وتحليلاً لما صنعه بتلك الصورة التي يصبح فيها اللون معياراً للقيمة. أمورٌ لعلّها قادت الكاتبة إلى موضوع روايتها الأُولى.

ربما تلك المسوّغات غير الواعية في خلفية لحظة الكتابة أسهمت في جعل النص مؤثّراً، كاشفاً، وحقيقياً. والكاتبة تحاول ما استطاعت أن تجعل ذلك الألم الذي يتأتّى من قسوة العالم، ألماً شاعرياً. تدلّ على ذلك علاقة الشخصية الرئيسية بالماء. منذ الصفحات الأُولى إلى النهاية، وفي مواقف عديدة، كانت تقف أمام المسبح الذي أفقَدها أختها، وهي تشعر أنّ الماء يطفو في داخلها. مع أنّها منذ البداية، ومع مقتل الأخت، نشأت على وعي الخطورة التي للماء، إلّا أنّها استمرّت تشعر وهي تقف أمام ماء المسبح الملوّث بالبراز أنّها جزءٌ من هذا الماء، وأنّ في مقدورها في لحظات كثيرة أن تهرب في لحظات عنيفة وقاسية إلى المسبح الملوّث، الذي لا يعود ملوّثاً ما إن تنزل فيه. ربّما الحكاية كلّها في الخطورة التي تموج داخل كيارا، خطورة تتأتّى من لونها، ومن صغر سنّها، ومن حاجتها إلى المال والحماية.

روايةٌ عن اجتماع شرور العنصرية والعنف والتردّي القانوني

حكاية كيارا، ليست حكايتها وحدها، بل نراها حكاية متّسقة عن عرقها، لأنّ أساس أزمتها وسبب شعورها بالضعف وقلّة الحيلة، واضطرارها إلى فعل أمور لن تفعلها فتاة بيضاء في مثل عمرها، سبب ذلك أنّ والدها قُتل في السجن لانتمائه إلى حركة الفهود السود، ووالدتها حاولت الانتحار، بعد أن قتلت ابنتها الصغيرة تحت ضغط شعورها بالعجز، وهو عجز أن يكون المرء وحيداً، ومطلوباً منه أكثر ممّا يقدر على أن يقدّم. بسبب هذين الحدثين، مقتل الأب وسجن الأم، تبقى كيارا مع شقيقها في منزل لا يستطيعان سداد إيجاره، وفيما ماركوس تائه عن العالم الواقعي بأحلامه الموسيقية، نرى كيارا، الشخصية التي تتكثّف لديها الحكاية التي تمتد إلى 336 صفحة، مدفوعةً ومضطرّة إلى دخول وحل الحياة، معترك العيش، أو أيّاً يكن الوصف. في النهاية، وجدت كيارا تمتهن بيع الجسد، لتصبح فتاة ليل، وإحدى الهَوام التي تعرف من أوجه الوجود أشدّها قسوة.

ومع إدراكها أنّها لم تكن تملك سوى جسدها، كي تبيعه، ستقول لنفسها، إنّه مجرّد جسد. لكن سرعان ما نجد معها أنّ مسألة بيع الجسد، تتعدّى ذلك في حالتها. ومن غير أن يستغرق المرء في الرمزيات التي لجسدها الأسود، سرعان ما نجد، وما إن تدخل حلقةً مفزعة من رجال الشرطة، أنّها لم تبع جسدها من غير شعور بالإثم، بل يضغط على وجدانها شعور أنّها مستباحة، أنّها سوداء، ولم تعُد تملك حتى جسدها. ينقذها من هذه الحال حدثُ انتحارِ شرطي، لا تعرف اسمه، فقط رقمه. وقد ذكر اسمها في رسالة الانتحار. لكن ما بدا لكيارا خلاصاً من تلك الحلقة المفزعة، عبر دفع قضيتها إلى المحاكم، ولتصبح قضية رأي عام، لم يكن إلّا حلقة جديدة من تلك العتمة التي تحيق بمصيرها.

ليلى موتلي
ليلى موتلي

على الجهة الأُخرى، أو في السياق عينه، ما جعل من خيارات كيارا صعبة، هي المسؤوليات التي استمرّت تخصّها، مثل تورّط أخيها في المخدّرات بعد إقراره بفشل موسيقاه، ورعايتها لطفل يسكن في الجوار، بعد أن تخلَّت عنه والدته، وأيضاً تخلّي عمّها عنها وعن أخيها. حتّى عندما تأمل، بدفعٍ من المحامية، بالحصول على المال جرّاء القضية التي رفعتها ضدّ الشرطة بدفعٍ من المحامية أيضاً، فإنّها لا تحصل على المال، ويفوتها بسبب تباهي المحامية البيضاء أن تقايض شهادتها بخروج أخيها من السجن، شهادتها التي لن تعود عليها بالنفع، لن تعيد حقّها، أو كرامة جسدها.

التعاطف إحدى السمات الأساسية التي تُشجّع عليها الرواية، إلّا أنّها أبعد من ذلك، توصل القارئ إلى مجال أكثر رحابة وإنسانية، وهو الوعي بالحقوق. يَظهر هذا في مواقف قليلة، إلّا أنّها ترسم الصورة العامّة للشرط الأميركي للحياة، إذ تُشكّك كيارا بالمحامية التي ساعدتها معتقدةً أنّ تلك المرأة البيضاء لن تفهم ما مرّت به بصفتها فتاة سوداء. أيضاً نعرف أنّ هيئة المحلّفين لا تجتمع إلّا عندما يُردي شرطيٌّ رجلاً أسود، وتظهر هيئة المحلفين كرغبة حكومية في التظاهر بأنّ الحكومة تُبالي حقّاً بقضية السود، والتمييز العنصري ضدّهم. إلّا أنّ كيارا تعي ذلك، بل إنّ هذا الوعي أيضاً يعوم داخلها، جزءاً من الماء الذي استمرّ خلفيةً في مشهد الغرق العامّ.من ثم، تبقى ممتنّة - لا نعرفُ لمَ ولمَن - لأنّها ما زالت تتنفّس!

وهذه استعارة لم تقصدها الكاتبة بالوضوح الذي يتردّد صداه لدى القارئ، بالتقاء كلماتها مع كلمات الرجل الذي مات مختنقاً والشرطي يجثم فوق رقبته. هكذا، مع تردُّد صدى تلك الكلمات: "لا أستطيع التنفّس"، نعرف أنّ كيارا ممثّلة رائعة عن عرقها، وأنّها مسكونة بوعي أشمل منها، ونعرف أنّ الحظّ فقط، أو المصادفة، هو ما أنقذها من الموت اختناقاً، لأنّ الشرطة تمسك بالهواء من حولها.


* روائي من سورية

المساهمون