استمع إلى الملخص
- **أهمية الأرشيف في فهم الأدب**: الأرشيف يمكن أن يكون نواة لمشاريع أكبر، مثل برنامج "زيارة لمكتبة فلان" الذي أظهر جوانب جديدة من علاقة نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم.
- **تأثير تواريخ النشر على فهم الأدب**: تحديد تواريخ نشر الأعمال الأدبية بدقة جوهري لفهم تطور تجربة الكاتب، كما يظهر في الجدل حول تاريخ نشر "ليالي ألف ليلة" لنجيب محفوظ.
يجود علينا "يوتيوب" أحياناً بحوار أو تصريح قديم لهذا الكاتب أو ذاك، فنستعيده كما لو كان جديداً. وهو جديد حقّاً، بمعنى من المعاني، إذ لم نقرأه أو نسمعه من قبل. ثمّة بهجة مؤقّتة بطبيعة الحال، إذ اكتشفنا زاوية جديدة للنظر، أو نقطة انطلاق جديدة لقراءة فلان أو الكتابة عنه. وبعد تبدُّد البهجة لا تبقى إلّا الحسرات. ماذا لو اختفى هذا الأرشيف؟ بل، هل هو أرشيف حقّاً في ظلّ فوضويته (قد نجد حواراً على عدّة أجزاء وقد تفرّق دمُه بين القنوات)، أو نقصانه (قد نجد جزءاً من حوار اختفت باقي أجزائه)، أو اختلاطه (قد نصادف المادّة نفسها بعنوان مختلف، فنُضيع وقتاً كان يُفضَّل استثماره في نبش آخر)؟
كلّ جزء من أجزاء الأرشيف نواة لمشروع آخر أكبر. قد ندوِّن ملاحظة نظنّها عابرة صغيرة، لنكتشف أنّها ستُغيِّر وجهة نظرنا أو زاوية رؤيتنا حيال أدب كامل، أو تجربة روائيّة بأسرها. فمثلاً، لم أكن قد استمعت من قبل إلى أي حلقة من حلقات برنامج "زيارة لمكتبة فلان"، للمذيعة المصرية الراحلة نادية صالح، وتصادفَ أنّي لمحتُ حلقة عن نجيب محفوظ، وفيها مداخلة لتوفيق الحكيم. فرْضُ عين إذن. فلننصت إلى الشيخَين.
سنُنصت إلى موضوعات كثيرة متشعّبة، وسنستعيد علاقة الصداقة العظيمة بين أكبر كاتبَين مصريَّيْن. سيلفتُنا الاحترام الجمّ الذي يُبديه الحكيم لمحفوظ، وتقديره العالي لمكانته. وسنتذكّر رفض محفوظ الجلوس على كرسي الحكيم بعد أن انتقل إلى مكتبه في "الأهرام" إثر وفاة الحكيم، وتفضيله البقاء على الكنبة التي اعتاد الجلوس عليها حين يزور الحكيم، وكأنّ تلك الزيارات لا تزال حاضرة. سنلتقط رؤية كلّ منهما لأعمال الآخر، والزاوية التي ينظران منها إلى الأدب وإلى التفضيلات. سننصت إليهما وهما يتحدّثان عن فلسفة المشي، وعن الكتابة، وعن بخل الحكيم، وعن كراهية محفوظ لربطات العنق وحلاقة الذقن. ومن ثمّ يغادرنا الحكيم لنبقى مع محفوظ ومكتبته، أو جزء منها، فنلاحق تحوّلاتها مع تحوّلات توجّهاته الفكرية والأدبية، وتقدَّم السنّ والتجارب، فتتبدّل الكتل بتبدُّل السنوات.
تستحقّ كلُّ نقطة من هذه النقاط مادّة مستقلّة، غير أنّ ما لفتني غياب تاريخ هذه الحلقة. يمكن لنا تحديدها بمراجعة أرشيف الإذاعة المصرية، ولكن ثمّة إشارات من داخل الحوار، تومئ إلينا بتاريخ تقريبي. الحوار في ذكرى ميلاد محفوظ، إذن هو 11 ديسمبر/ كانون الأول، وكانت "أفراح القبّة" أحدث إصداراته آنذاك، إذ "صدرت قبل شهر" من تاريخ الحوار. إذن، هو عام 1981. وبذا، فإنّ الحوار كان يوم 11 ديسمبر/ كانون الأوّل 1981، بمناسبة ميلاده السبعين.
تتغيّر قراءتنا حين نعرف تواريخ نشر الأعمال الأدبية
ولكن، ليس هذا التاريخ هو المُربِك هنا. يقول محفوظ إنّه يعمل الآن على مجموعة قصصية جديدة لن تُنشَر قبل عام 1983. على الأغلب، المجموعة المقصودة هي "رأيت فيما يرى النائم" التي صدرت عام 1982. ولكن ماذا عن "ليالي ألف ليلة" التي تقع، بحسب ترتيب صدور أعماله في طبعة دار الشروق، بين "أفراح القبّة" والمجموعة القصصية. إنْ كان تاريخ صدورها صحيحاً، كان محفوظ سيذكرها، أو سيقول إنّه يعمل على "رواية" لا على مجموعة قصصية، وهي عمل محوري من بين أعماله لا يمكن تجاهله، أو المرور عليه بإشارة عابرة.
تعود لعنة الأرشفة هنا؛ إذ لا نعرف تاريخ صدور رواية "ليالي ألف ليلة" بدقّة. فمعظم الأخبار والمقالات العابرة الحديثة تشير إلى أنها نُشرت "بعد اغتيال السادات"، أي أواخر عام 1981. ومع أنّ قائمة أعماله المنشورة في نهاية كلّ كتاب من كتبه في طبعة "دار الشروق" تشير إلى تاريخ 1982، نجد أنّ صفحة تفاصيل الرواية في طبعة "الشروق" ذاتها تشير إلى أنّها صدرت بطبعتها الأولى عام 1980، بينما تشير طبعة "مؤسّسة هنداوي" إلى أنّ الرواية نُشرت للمرّة الأولى عام 1979. كيف لنا أن نحدّد التاريخ الصحيح؟
ليست الأرشفة محض تدوين تاريخ نشر أو كتابة، بل هي مسألة جوهرية لفهم تكوين تجربة كاتب وتكوُّنه مع اختلاف الأيام والتجارب، وبالغة الأهمية في فهم موقعه ضمن خريطة الأدب الذي ينتمي إليه. ثمّة تواريخ قد تُغيّر تاريخ الأدب برمّته. ماذا لو كان شكسبير قد بدأ الكتابة المسرحية عام 1586 أو 1587 (حين كان في الثانية والعشرين)، وليس تبعاً للتاريخ السائد عام 1590 (حين كان في السادسة والعشرين، وهي سنّ متأخّرة في ذلك العصر)؟ ثمّة باحثون يحاولون إثبات هذا اليوم، ولو صحّت فرضيّتهم لن نكون أمام محض تغيير طفيف مقداره بضع سنوات، بل سنكون أمام تاريخ جديد كلّياً للمسرح الإليزابيثي، يكون فيه شكسبير مؤثِّراً منذ البداية، وليس متأثّراً بكرستوفر مارلو كما تسود أغلب الآراء.
وكذا الأمر بخصوص تاريخ كتابة "أولاد حارتنا" الذي تَبيَّن أنّه 1958 وليس 1967. عام 1958 يعني بداية عودة محفوظ إلى الكتابة بعد فترة صمت تزامنت مع "ثورة يوليو"، ولذا فالرواية تحمل معظم آرائه حيال "الثورة" وحيال مفهوم السُّلطة في ذاته.
ستتغيّر قراءتنا كلّياً أو جزئياً حين نعرف خريطة تواريخ نشر الأعمال الأدبية، ومكانها، وتاريخ كتابتها. الأمر ليس محض أرقام عابرة، بل تواريخ أدب كاملة، وتواريخ أمم قد تُعاد كتابتُها بسبب رقم عابر. وإن كنّا عاجزين عن تحديد تاريخ نشر رواية قبل أقلّ من خمسين عاماً، فماذا عن "التاريخ" بألف التعريف؟ ماذا عن تاريخنا بأسره؟
* كاتب ومترجم من سورية