بات شائعاً القول إن العالم بعد انقضاء جائحة كورونا لن يكون تماماً ذاكَ العالمَ الذي عرفناه قبلها. فهذه الأزمة الصحية، التي لم يسبق أن عرفت البشرية مثيلاً لها، وبهذا الحجم الكوكبيّ، في القرنين الماضيين على الأقل، أصابت مجتمعات المعمورة في بُناها التحتية والمؤسساتية، ودفعت الفاعلين، من علماء وأطباء ومسؤولين حكوميّين وغيرهم، إلى إعادة النظر في طُرق تعاطيهم مع أحداث وكوارث كهذه.
المشتغلون بالفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية كانوا من بين الذين أخذتهم الجائحةُ على حين غرة، وطالبتهم، بمعنىً ما، بالتفكير أو إعادة التفكير في العديد من الظواهر والمفاهيم، مثل المرض والصحة وأشكال الرعاية، والعلاقة بين الاعتلال والحرية والحياة، أو بين الدولة والمجتمع، والعمل وطبيعته، ومستقبل التعليم ومؤسساته، والأيديولوجيا التقنية ومخاطرها، وأشكال التضامن، ومسألة البيئة، إضافة إلى مفهوم الحقيقة وقضيّتَي الأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة. بعبارة أخرى، دفعتهم الجائحة إلى إعادة التفكير بالمصير الإنساني عموماً.
وقد اختلفت أشكال التفكير والنظر هذه، فمنها من تحلّى بالحذر، مدركاً أنّ علينا تجنّب إغراءات "التفلسف السريع"، لأنّ التفكير، سواء كان فلسفياً أم عِلمياً، يحتاج إلى التأنّي من أجل معالجة العدد الكبير من المعطيات، ولا سيّما في أوقات الكوارث. ومن أشكال التفكير هذه مَن انساق إلى نظريات المؤامرة وشعبويات اليمين المتطرف، ووَجدَها فرصةً لمهاجمة الديمقراطية. يضاف إلى هذا وذاك مَن اختاروا "البكائيّات" المرتبطة بأمراض الحضارة المادية، والتي، في نحيبها ونشيجها، تؤكّد مرة بعد أخرى ما ذهب إليه مارتن هايدغر من أننا لم نبدأ بعد في التفكير.
في هذا السياق العام يأتي المؤتمر السنوي لمجلّة "تبيّن" للدراسات الفلسفية والنظريات النقدية، والذي انعقد يوم السبت الماضي، واختار مسألة العلاقة بين الفلسفة والجائحة والمرض موضوعاً لمداخلاته ونقاشاته. شارك في المؤتمر باحثون وباحثات من مختلف حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية. وقد اشتركوا، جميعاً، في لفت النظر إلى ضرورة الذهاب أبعد من القراءة البيولوجية الطبية لأزمة كورونا التي نواجهها، متّفقين على ضرورة البحث في الأبعاد الاجتماعية للجائحة، وللمرض عموماً، وفي الأسئلة الأخلاقية والتقنية التي يطرحها علينا.
خصّصت مجلة "تبيّن" مؤتمرها السنوي لمقارَبة الجائحة والمرض فلسفياً
انقسمت الندوة إلى ثلاث جلسات ومحاضرة عامّة. في الجلسة الأولى، التي أدراها رئيس تحرير "تبيّن"، رجا بهلول، وحملت عنوان "الفلسفة والجائحة والمرض"، وقف الباحث المغربي رشيد بوطيب، في محاضرته المعنونة بـ"المرض والمجتمع والحرية: مقدمات للفهم"، على نقاشات الفلسفة الاجتماعية الألمانية حول "المرض الاجتماعي"، ولا سيّما عند حوار أكسيل هونيث النقدي مع سيغموند فرويد وألكسندر ميتشرليش. عرّف بوطيب، وهو أستاذ الفلسفة المعاصرة في "معهد الدوحة" ومدير تحرير "تبيّن"، المرضَ على نحو سلبي، انطلاقاً من الفيلسوفين، الأميركي هوغو تريسترام إنغلهارت، والألماني هانز جورج غادامير. ويرى إنغلهارت وغادامير في الصحّة رديفاً لاستقلالية الفرد، ما يعني أن المرض هو، تعريفاً، غياب هذه الاستقلالية.
من جهته، قدّم الباحث الجزائري زواوي بغورة مقاربةً لمفهوم المرض عند ميشيل فوكو، في محاضرة حملت عنوان "المرض بوصفه تجربةً وخطاباً: بحث في سياسات المرض عند ميشيل فوكو ودورها في الفلسفة الاجتماعية المعاصرة". وأوضح بغورة أن المرض لدى فوكو، وفي التصوّر الفكري الحديث بشكل عام، متأصّل في البنية الاجتماعية، وأعطى مثالاً على ذلك بتحليل الفيلسوف الفرنسي لظاهرة الجنون، والتي رأى أنها لا يمكن أن تكون سابقة على المجتمع وأجهزته ومعاييره. ذلك أن ولادة الجنون كظاهرة مرتبطة بشكل ضروري مع محاولة المجتمع إقصاءه، باسم معاييره الأخلاقية.
الباحث اللبناني مشير باسيل عون قارَب المرض باعتباره سؤالاً أنطولوجياً قبل كلّ شيء. وفي محاضرته التي حملت عنوان "كورونا وتجليات الانعطابية في الكائن الإنساني المعاصر"، ميّز عون بين أشكال ثلاثة لما سمّاه "انعطابية الإنسان المعاصر": الشكل البيولوجي، الشكل الكياني أو الأنطولوجي، والشكل الوجداني النفسي. وعرّف عون الانعطابية بأنها أكثر من صفةٍ عابرة للكائن البشري: إنها وضعيته الطبيعية، التي يحاول رغم ذلك نسيانها وتناسيها. وقد ذكّر، في تلميحٍ إلى هايدغر، بأن الحياة ما هيَ إلا تدرّب تدريجي على الموت.
أما الباحث المغربي عادل حدجامي، فقد تناول، في محاضرته "آلام الإنسان الديجيتال"، التحديات المختلفة التي يواجهها الإنسان المعاصر، محذراً من تبنّي الفلسفة لعجالة الإعلام في مقاربة موضوع مثل الجائحة الراهنة. وفي تقاطع مع أطروحة مشير باسيل عون، لفت حدجامي إلى أن الإنسان المعاصر يتناسى حضوره المادي، المصنوع من لحمٍ، والذي يمكن للمرض أن يكون شكلاً من أشكاله. أعاد حدجامي هذه الرؤية، أو اللارؤية، إلى أن الإنسان الديجيتال يبدو مأخوذاً تماماً بالصور وبالحياة الافتراضية، حدّ نسيانه بعضاً من أساسات كينونته. وشدّد على أن المرض ليس علّة وظيفية تصيب أحد الأعضاء، بل إن الوجود في العالم مشروطٌ، بحسبه، بقابليته للانعطاب والمرض.
اتفق المشاركون على ضرورة الذهاب أبعد من القراءة البيولوجية الطبية
أكثرَ تنوعاً في مقارباتها وفي حقولها البحثية جاءت الجلسة الثانية، التي حملت عنوان "قضايا الصحة وأخلاقيات الحياة"، والتي أدارها الباحث الفلسطيني عمر المغربي. في محاضرته الموسومة بـ"الأوبئة والجوائح في الشرق الأدنى القديم منذ أقدم العصور إلى طاعون عمواس: دراسة في تأثيراتها في العمران البشري"، سلّط الباحث الفلسطيني محمد مرقطن الضوء على حضارات مختلفة عصف بهت الأوبئة، وأكّد ضرورة أن نأخذ التجربة التاريخية بعين الاعتبار في عملية فهمنا اليوم لجائحة كورونا.
بدوره، قدم الباحث السوري معتز الخطيب، في محاضرته "فلسفة الوباء: من اللاهوت العملي إلى الأخلاق التطبيقية"، وجهةَ نظر الأخلاق الإسلامية للموضوع، عارِضاً التاريخ الطويل من تعامل "الكلام" مع قضايا الجوائح، ومؤكداً الانتقال من "الكلامي" إلى "الأخلاقي" اليوم في مناقشة الجائحة داخل الخطاب الإسلامي.
وفي مداخلته الموسومة بـ" المرض طريق الموات: تأملات كيركيغوردية"، وقف الباحث الجزائري كمال الطرشي على تصوّر الفيلسوف الدنماركي للمرض والمرض الروحي، وتأثيره بالفلاسفة الوجوديين من بعده. واختتمت الجلسة بمحاضرة الباحث التونسي المولدي عزديني، "الطب الحيوي بين السياسي والإيتيقي"، وفيها تناول أشكال الخلل الذي يصيب التوظيفات المؤسساتية للطب والعلوم، وتأثير ذلك على الإنسان، مؤكداً ضرورة البيوإيتيقا للطب المعاصر، ومنافحاً عن فلسفة نقدية للقيم تُفكّك المسكوت عنه سياسياً في مجال الطب الحيوي.
أما المحاضرة العامة، التي أدارتها أمل غزال، عميدة كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية في "معهد الدوحة للدراسات العليا"، فقد ألقتها أستاذة فلسفة الأخلاق والأخلاق التطبيقية في "جامعة لافال" الكندية، ماري هيلين باريزو. وفيها سلطت الضوء على العديد من أشكال الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكذلك البيئية، في سياق الجائحة، محلّلةً التوتّر القائم اليوم بين قضايا الرعاية والاستجابات التقنية. وربطت في مناقشتها للجائحة وتأثيراتها بين نظرية الرعاية التي وضعتها المفكّرة السياسية الأميركية جوان ترونتو، وبين تصوّر عالم الاجتماعي الفرنسي جاك إيلول حول "النظام التقني" الذي يتميز بالفاعلية والسرعة والأتمتة والاستقلالية.
ورأت باريزو أنه حتى لو أدركت العديد من الحكومات أهمية تقديم الرعاية لأي مجتمع، فقد اختارت هذه الحكومات حلولاً تقنية، من أجل الحفاظ على النشاطات الاقتصادية. كما أوضحت كيف أن اللجوء إلى التحول الرقمي كانت له انعكاسات كبيرة على التعليم العالي والفنون والإنتاج الثقافي وقطاع الشغل والديمقراطية. ومن خلال تقديم العديد من الأمثلة، أوضحت المفكّرة الكندية كيف تُجهِز الحلول التقنية على العلاقات الإنسانية وعلاقات الرعاية، وكيف تنزع عنها الطابع الإنساني، معمّقةً أشكال اللامساواة والإقصاء الاجتماعي.