"أقدم الوثائق الوقفية باللغة العربية في يوغسلافيا" لـ حسن كلشي: تأريخٌ مبكّر للعربية في البلقان

09 اغسطس 2022
حسن كلشي وزوجته ناتالي مع الشيخ كاظم بقالي شيخ الطريقة البكتاشية في كوسوفو 1970
+ الخط -

في إطار الاحتفال بمئوية العالِم المعروف في يوغسلافيا السابقة حسن كلشي (1922 - 1976)، الذي درس واشتغل في أوّل قسم للاستشراق في البلقان "جامعة بلغراد" وأسّس ثالث قسم للاستشراق في يوغسلافيا بـ"جامعة بريشتينا" (1973) وانتُخب في (1967) عضواً في "مجمع اللغة العربية" في القاهرة؛ جرت في مسقط رأسه كيتشفو/ كرتشوفا احتفالية كبيرة بمناسبة صدور ثمانية مجلّدات من أعماله المُختارة في اللغات التي نشر فيها (الألبانية والصربوكرواتية والتركية والعربية)، بينما سيخصّص المجلّد التاسع عن إسهاماته حول الأدبين العربي والتركي، والعاشر عن دراساته المنشورة في الألمانية والفرنسية والإنكليزية. ورأينا من المناسب هنا نشر جزءٍ من رسالته للدكتوراة التي ناقشها في "جامعة بلغراد" (1960) بعنوان "أقدم الوثائق الوقفية باللغة العربية في يوغسلافيا"، على أمل أن تُنشر كلّها في العربية نظراً لأهميتها الرائدة التي لم يتجاوزها الزمن.

ومن الأمور المهمّة التي تناولها كلشي في الفصل الأول من هذه الأُطروحة الرائدة، بدايات وصول وانتشار اللغة العربية في غرب البلقان أو في يوغسلافيا التي تأسّست عام 1918 لتشمل معظم ما يسمى اليوم "غرب البلقان"، وانهارت عام 1992 لتظهر بالتدريج سبعُ دول مستقلّة حلّت محلّها. وقد آثرنا هنا أن نحافظَ على عنوان هذا الفصل كما هو في الأصل، مع الإشارة إلى أن الدراسات العِلمية بعد نشر هذه الأطروحة بالصربوكرواتية في بريشتينا (1972) قد أضافت جديداً إلى ما هو وارد هنا.
***

في تاريخ الإنسانية لدينا أمثلة نادرة عن شعب صغير، لم تكن له تقاليد دولة ولا تقاليد عسكرية أو مدنية أصيلة متطوّرة، قام خلال وقت قصير بفتوحات كبيرة كما هو الأمر مع العرب. إلّا أنّه في هذا التوسّع، الذي لم يكن بطابع عسكري فقط، يفاجئنا الانتشار السريع للإسلام في البلاد المفتوحة، وقبول اللغة العربية من قبل سكّان البلاد المفتوحة، وتأسيس دولة قوية. كان هذا التوسّع يضمّ عنصرين لعبا دوراً مهمّاً في التاريخ، ألا وهما: الإسلام واللغة العربية.

فقد جعلت الفتوحات من العربية لغة عالمية ولغة حضارة متنوعة وكبيرة، التي لم تكن عربية في كل النواحي ولكنها انتشرت بفضل روحها الإسلامية التي شملت مختلف جوانب الحياة. وهكذا خلال عدّة قرون أصبحت العربية لغةَ تواصُل ولغة ثقافة من بلاد فارس حتى جبال البيرنيه. وبذلك فقد أزاحت العربية لغات ثقافات قديمة كالسريانية والقبطية التي بقيت لغة الكنيسة. وكذلك كان الأمر في بلاد المغرب حيث أزاحت العربية اللغة الأمازيغية وأصبحت لغة الإدارة والثقافة، واستمرّت كذلك حتى أيامنا هذه.

وحتى بعد سقوط الدولة العربية استمرّت العربية لغةَ تواصل ولغة الثقافة العربية الإسلامية. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن العربية كانت وبقيت لغة دينية لكلّ المسلمين فإن هذا يفسّر انتشار العربية في أرجاء واسعة من العالم خارج الجزيرة العربية التي كان يسكنها العرب. وهكذا أصبحت غالبية المؤلّفات العِلمية، وخاصة تفاسير القرآن ومؤلّفات الفقه والعقائد والشروحات والحواشي على المؤلّفات العربية، التي وُضعت في الدولة العثمانية والهند وباكستان وإندونيسيا وبلاد فارس تُكتب في اللغة العربية. وبمعنى ما فقد أصبحت هذه اللغة أيضاً لغة دبلوماسية للمثقفين المسلمين في العالَم. ولم يعدِ الأدب العربي نتاجَ العربِ فقط بل أصبح نتاجاً للروح الجامعة الإسلامية.

ولكلّ هذا يقول غولدزيهر بحقّ "إن كل العالم الإسلامي من إسبانيا وحتى آسيا الوسطى، ومن تركيا حتى حدود الصحراء، ومن ضفاف النيل حتى الهند وكجرات" قد ساهم بدوره في تطوّر الأدب العربي. وفي هذا السياق لدينا مسألة اللغة العربية والوثائق التي كُتبت بها في أرجاء بلادنا.

اعتُمد النموذج التركي - العربي في تأسيس مدارس البلقان

لقد بدأ تعلُّم العربية في بلادنا كلغة الثقافة والحضارة الإسلامية مع انتشار الإسلام. فحيثما كانت تبرز محلّة للمسلمين، وخاصة في المدن، كانت تؤسّس هناك مدرسة تهتمّ أساساً باللغة العربية. وبالاستناد إلى الوثائق المختلفة، وخاصّة الوقفيات، يتّضح أن تأسيس مثل هذه المدارس بدأ مُبكّراً. 

وثائق الوقفية - القسم الثقافي

ويمكن القول إن معظم الواقفين كانوا يبنون الجوامع والمدارس والكتاتيب مع الأقسام الداخلية التي توفّر المبيت للتلاميذ. ولا شكّ في أنّ "مدرسة إسحق بك" في سكوبيه (عاصمة جمهورية مكدونيا الشمالية الآن) التي كانت ضمن وقفِه المُسجّل عام 1444 كانت من أوائل المدارس، على حين أنّه في 1468 وثّق عيسى بك وقفه في سكوبيه الذي تضمّن مدرسة كانت من كبريات المدارس في بلادنا. وقد ذكر أوليا جلبي في "سياحتنامه" أنّ "مدرسة السلطان مراد"، و"مدرسة يحيى باشا"، و"مدرسة عيسى بك"، و"مدرسة مصطفى باشا"، و"مدرسة كارلي زاده" في سكوبيه كانت مشهورة.

ومن المهمّ هنا الإشارة إلى أن عيسى بك خصّص معظم ثروته لمدرسته المذكورة. وفي 1508 قام إسحق جلبي من مناستير بتوثيق وقفه في 1508، حيث يظهر أنه في جوار الجامع بنى مدرسة مع قسم داخلي يتضمّن عشر غرف للتلاميذ. كما أن سوزي جلبي من بريزرن أسّس وقفاً تضمّن مدرسة كان نفسه يدرّس فيها. وقد ازداد عدد هذه المدارس باستمرار حتى أن حازم شعبانوفيتش يذكر أن عدد المدارس في البوسنة والهرسك فقط وصل إلى مئة مدرسة. 

وفي مكدونيا وكوسوفو كان عدد هذه المدارس يماثل ذلك وربما أكثر. ففي مدينة بريزرن كانت "مدرسة محمد باشا" و"مدرسة طاهر باشا" مشهورتين. وفي كل مدرسة كانت هناك كتبٌ موقوفة، وهي تُظهر مدى الاهتمام الكبير باللغة العربية والموضوعات التي كانت كتبها الأساسية في اللغة العربية.

وفي هذه المدارس التي تأسّست وفق النموذج التركي - العربي، كان يُدرّس تفسيرُ القرآن وعلم الحديث والعقائد والفقه وأصول الفقه والفرائض وقواعد اللغة العربية وغيرها. وكان الطلاب يُمضون عدة سنوات في تعلم قواعد اللغة العربية. كان التعليم يعتمد على القراءة وتفسير النصوص وحفظ قواعد اللغة غيباً. وبالإضافة إلى القواعد كان يتمّ تعليم علم اللغة وعلم البلاغة وعلم العروض. وكانت هناك مدارس تركّز على مجال واحد مثل قراءة القرآن وعلم الحديث، وكانت تسمّى "دار القرّاء" و"دار الحديث". ويذكر أوليا جلبي مثل هذه المدارس المتخصّصة في كثير من المدن لدينا. وهكذا يقول إنه كانت هناك "دُور الحديث" في أوهريد وشتيب، ببينما كانت لدينا في سكوبيه "دُور القرّاء". وحسب جلبي كانت في سراييفو ثماني دُور متخصّصة، وفي بلغراد كانت تسع دُور للحديث و270 كُتّاباً.

يتعدّى الأدب العربي جغرافيته إلى روح إسلامية جامعة

وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن اللغة العربية كانت تُدرّس بهذا الشكل فلا يُعدُّ من المستغرب أن يكون لدينا مثلُ هذا العدد الكبير الذين أتقنوا العربية حتى أن معظم مؤلفاتهم في المجالات العلمية والأدبية كانت في العربية. وعلى حين حظي نتاج المسلمين في البوسنة والهرسك من اللغات الشرقية بالاهتمام والدراسة، فإنّ نتاج الكُتّاب من مكدونيا وكوسوفو والجبل الأسود وصربيا بحدودها الضيقة لم تتمّ دراسته بعد، على الرغم من أن هؤلاء الكتّاب كانوا معروفين، وخاصة من الألبان. ويكفي هنا أن نذكر من شعراء الكلاسيكية (العثمانية) يحيى بك وأحمد بك دوكاجين، والمفكّر قوجي بك، والعالِم والمُترجِم من اليونانية أسعد أفندي، والعالم الموسوعي شمس الدين الدين سامي فراشري، والشاعر ومؤلف النشيد الوطني التركي محمد عاكف وغيرهم.

وكان يمكن أن يكون عدد هؤلاء الكُتّاب أكبر لولا أن كلّ المكتبات الشرقية في الجزء الجنوبي من بلادنا قد تدمّرت، بينما نجا معظمها من هذا المصير في البوسنة والهرسك. وعلى سبيل المثال أذكر أنه بين يدي نسخة من مخطوطة "مناقب" في اللغة العربية عن المنشآت العثمانية في بريزرن لمؤلّفها مفتي بريزرن في سبعينيات القرن التاسع عشر محمد طاهر الذي كتبها شعراً، بينما وجدتُ في مخطوطات شيخ الطريقة الملامية في بريزرن المُدرّس عمر لطفي بشاريزي (رحل 1935) مؤلّفاتٍ له في اللغة العربية.

ومن الحقيقة القول إنّ اللغة العربية تغلغلت في بلادنا عبر الأتراك العثمانيين، الذين كانوا يعتبرون العربية لغةً أكثر كمالاً وأكثر توقاً من لغتهم. ولذلك كان العدد الأكبر من سجلّات المحاكم الشرعية والنقوش على المنشآت في القسم الأول من الحُكم العثماني في اللغة العربية، سواء في الأناضول أو في البلقان. وربّما جاء هذا نتيجةً لأنّ الأتراك ولأسباب مختلفة كانوا يعتمدُون في ذلك على ما هو موجود سواء لدى العرب أو السلاجقة والدول التركية الأُخرى التي وُجدت قبل تأسيس الإمبراطورية العثمانية. ولذلك لم يكن من الصُّدف أن تكون أقدم النقوش والوثائق في إسطنبول وبورصة والأناضول في اللغة العربية. كما أن كلّ الوقفيات من عهد السلاجقة كانت في اللغة العربية، كما هو الأمر مع النقوش والوثائق الموروثة من السلالة القرامنغولية.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون