قبل أيّام، أعلنت وزارة الثقافة الجزائرية عن إقامة ندوة وطنية حول المفكّر الجزائري مالك بن نبي (1905 - 1973) في "المكتبة الوطنية" بالجزائر العاصمة ومكتبات ودُور ثقافةٍ في الولايات الأُخرى بين 26 و31 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، دون أن تُقدّم أيّة تفاصيل حول برنامجها، مكتفيةً بديباجةٍ ذكرت فيها أنَّ الندوة تُقام "وفاءً للذاكرة الثقافية للجزائر، وإحياءً لرموز التفكير والثقافة" فيها، بمشاركة محاضِرِين ودارسين لفكر بن نبي الذي "ترك إرثاً كبيراً ما زال وهجُه يُضيء العقول".
لكن، وقبل ساعاتٍ قليلة مِن موعد انطلاقها المفترَض، أعلنَت الوزارة، في منشور لها على صفحتها في فيسبوك، عن تعديلٍ في برنامج الندوة، يتمثّل في تأجيلها بيومٍ واحد، وإقامتِها خلال يومَين اثنَين بدل خمسة أيام، كما كان مقرَّراً في البداية. وهذه المرّة، لم يُقدّم القائمون على الندوة توضيحاتٍ حول أسباب هذا التأجيل والتقليص.
انطلقت الندوة، التي حملَت عنوان "في الإصغاء لشاهد على القرن"، الثلاثاء الماضي، وسط حضورٍ رسمي لافت؛ إذْ أشرف على الافتتاح الوزير الأوّلُ الجزائري، عبد العزيز جرّاد، الذي عبّر عن أسفه لغياب فكر مالك بن نبي عن المدرسة والجامعة الجزائريَّتَين، وهو ما يُوحي بوجود توجُّهٍ رسميٍ لإنهاء حالة "القطيعة" غير المعلَنة مع صاحب "شروط النهضة" (1948)؛ الأمرُ الذي تُشير إليه إقامة الندوةِ نفسها، والتي شهدت في يومها الأوّل تنظيم معرضٍ استعادي حول مساره الفكري، وعرضَ شريط وثائقي قصير عنه وفيديو قدّمت فيه إحدى حفيداته رسائل عائلية كتبها ووقّعها بنفسه، إلى جانب إطلاق اسمِه على قاعةٍ كانت تُسمّى "القاعة الحمراء" في "المكتبة الوطنية".
سبق مُفكّري عصره حين تنبّأ بالعديد من الظواهر الاجتماعية
وفي اليوم نفسِه، أُقيمت في "قاعة مالك بن نبي" سلسلةٌ من المحاضرات التي تحدّث خلالها باحثون وأكاديميّون عن المفكّر الجزائري، مُعتبرِين أنه "سبق مُفكّري عصره، خصوصاً حين تنّبأ بالعديد من الظواهر الاجتماعية".
في مداخلته التي حملت عنوان "مفهوم القابلية للاستعمار وإشكالية المجتمع المدني عند مالك بن نبي"، تناول الباحث هشام شرّاد مفهومَ "القابلية للاستعمار" عند صاحب "فكرة كومنولث إسلامي" (1958)، قائلاً إنَّ هذا المفهوم أُسيء فهمه؛ حيثُ دفعَ اللبسُ الذي يعتريه وغيابُ شروحاتٍ دقيقةٍ حوله بعض المثقّفين الجزائريّين إلى اتهام صاحبه بـ "تبرير الاستعمار"، معتبِرين، حسب المحاضر، أنَّ المصطلح يُعبّر عن "تدليس للحقائق التاريخية، ورغبةٍ في خلق شعورٍ بالذنب تجاه التاريخ لدى الجزائريّين".
وتطرّق شرّاد في المحاضرة، أيضاً، إلى إشكالية المجتمع المدني لدى بن نبي، قائلاً إنّ المفكّرَ الجزائريَّ لم يستخدم مفهوم "المجتمع المدني" بشكلٍ مباشر في أعماله، لكنه أشار إليه بطريقة غير مباشرة في اثنَين مِن مؤلّفاته؛ هما "مذكّرات شاهد للقرن" و"شروط النهضة".
مِن جهته، قدّم الباحث وحيد بن بوعزيز مداخلةً بعنوان "القابلية للاستعمار مقولة ما بعد استعمارية؟"، تطرّق فيها إلى مسارات فكر بن نبي أثناء الاستعمار وبعده، مشيراً إلى أنّ المفهوم يُعبّر عن فكرٍ مؤسّس هو وليد ظروفٍ مجتمعية وثقافية مختلفة، ويتطلّب إعادة طرح أسئلة جديدة.
ومِن بين مداخلات اليوم الثاني واحدةٌ بعنوان "فلسفة الإنسان لدى مالك بن نبي" للأكاديمي زائر أبو الدهاج، والذي اعتبر فيها أنَّ مفهوم الإنسان يُمثّل مكانةً محورية في الجهاز المفاهيمي لمشروع بن نبي الفكري؛ حيث "استبدّ هاجس التأسيس لفلسفة حقيقية للإنسان بجملة النصوص التي أنتجَها، فاهتمّ بالأبعاد النفسية والاجتماعية والأنثروبولوجية والتاريخية التي تدخُل في تكوين شخصية الفرد/ المواطن، ونظر من خلال ذلك بفلسفةٍ علمية وعملية إلى الفعل والفاعلية اللذين يفتحان مجال الإبداع والابتكار".
وطرحت مداخلة أبو الدهاج أسئلةً من قبيل: كيف يمكننا أن نستثمر كلّ هذا التراث المعرفي في صياغة تصوُّرات ثقافية وعملية جديدة؟ وكيف نقرأ بن نبي ضمن التحوُّلات الفكرية والحضارية الجديدة؟
وقال المتحدّث إنَّ صاحب "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" (1970) كان حريصاً على بلورة مقاربةٍ تسمح ببناء أفراد قادرين على أداء دور محرّك للتنمية، مشيراً إلى أنّ المفكّر الجزائري حدّد أربعة مسارات للقيام بذلك؛ تتمثّل في الأخلاق، والجمال، والمنطق العملي، والتوجُّه الفنّي والصناعي.
واعتَبر المُحاضِر، في هذا السياق، أنَّ قيمةَ العمل تحوز مكانةً مهمّة لدى بن نبي الذي "كان مفكّراً متعدّد الأبعاد؛ خصوصاً لجهة علاقته بالعلوم الاجتماعية والتجريبية وانفتاحه على التيارات الرئيسية في الفكر العالمي وتفاعُله معها".
مفهوم القابلية للاستعمار أُسيء فهمه وعرّضه للاتهامات
وتحت عنوان "المسألة الثقافية عند مالك بن نبي بين روح الإلهام والحاجة إلى التساؤُل"، قدّم الباحث والأكاديمي محمد شوقي الزين مداخلةً تطرّق فيها إلى حضور المسألة الثقافية عند بن نبي، قائلاً إنه يُعدُّ من منظّري الثقافة في الجزائر، كما يشهد على ذلك زخمُ المؤلّفات التي لها نواةٌ صلبة واحدة هي الثقافة في مختلف تجلّياتها السياسية والفكرية والتربوية، ومن بينها كتابُه "مشكلة الثقافة".
وتحدّث المحاضِر عن مرجعيات بن نبي، الصريحة والضمنية، في بلورته نظريةً في الثقافة "تُمثّل بذرةً أساسية لزرعٍ مثمر في حقلٍ معلوم الأرضية هو الحقل الجزائري المتنوّع بأصوله وفروعه"، متطرّقاً إلى هذه النظرية من وُجهتَين أساسيّتَين؛ هما ما سماه "روح السؤال الملهم" لأفكار بن نبي "الذي لم ينفك يطعّمها ويُعيد الاشتغال عليها"، و"الحاجة إلى الاستفهام"، باعتبار أنّ "كلَّ سؤالٍ هم استفهامٌ ومدعاة للفهم؛ فهم ظاهرة الثقافة والتفاهم حول الصيغة التي يمكن أن تتّخذها بالنسبة إلى الحقل الذي تشتغل فيه، وهو هنا الحقل الجزائري بمكوّناته المختلفة".
وتضمّنت الندوة مداخلاتٍ أُخرى؛ هي: "مالك بن نبي بعيون روسية" لعبد العزيز بوباكير، و"مالك بن نبي سابقُ أوانه" لصالح بلعيد، و"مهام النخبة في التغيير الحضاري في مرحلة ما بعد الاستقلال عند مالك بن نبي" لرشيد ميموني، و"مالك بن نبي والراهن الثقافي في الجزائر، أيُّ علاقة؟" لصالح لكحل، و"قراءة في مصطلحات مالك بن نبي من التأويل إلى التأسيس" لعليش لعموري، و"من ملامح التجديد في فكر مالك بن نبي" لمولود عويمر.