محمد جمال باروت: "معاهدة لوزان" في قراءة عربية

26 مارس 2024
محمد جمال باروت (العربي الجديد)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في الذكرى المئوية لمعاهدة لوزان 1923، التي أعادت تشكيل خريطة الشرق الأوسط وأسست لاستقلال دول مثل تركيا والعراق، ظهرت مؤشرات على جوانب جديدة غير معروفة عن المعاهدة، لكن لم يكن هناك اهتمام أكاديمي كبير متوقع.
- المؤرخ السوري محمد جمال باروت أصدر كتابًا يغطي جوانب غير معروفة بشكل كافٍ حول معاهدة لوزان، مركزًا على الاتصالات بين العرب والحركة الكمالية، لكن الكتاب لم يحظ بالاهتمام المستحق بسبب تزامن صدوره مع الحرب على غزة.
- يتناول الكتاب التفاعلات بين العرب والأتراك من 1918 إلى 1923، مشيرًا إلى الفروقات في المصائر بين الطرفين ويعيد النظر في العلاقات العربية التركية برؤية جديدة لتلك الفترة التاريخية المعقدة.

قبل بلوغ هذه المئوية بسنوات، كانت هناك إشارات وإيحاءات بأنّ سنة 2023 ستكشف عن جوانب جديدة غير معروفة في "معاهدة لوزان" 1923، التي وضعت الأسس لـ"الشرق الأوسط" الجديد مع الكيانات الجديدة التي تقاسمت المنطقة الممتدّة من البحر الأسود إلى البحر الأحمر (تركيا والعراق وسورية ولبنان وفلسطين والأردن)، التي حظيت، فوراً أو لاحقاً بالاستقلال. وعلى الرغم من أهميّة المئوية، لم يكن الاهتمام الأكاديمي في المستوى المتوقّع، ولم يصدر كتاب واحد يضيف جديداً في التأطير المنهجي والتنظير للحدث الذي أنهى الحرب العالمية الأُولى بمستوى كتاب ميشيل توسان "المعاهدة الأخيرة: لوزان ونهاية الحرب العالمية الأُولى في الشرق الأوسط" (منشورات جامعة كامبردج، 2023) على سبيل المثال.

ولكن في هذا السياق، صدر كتاب مهمّ في الدوحة للمؤرّخ السوري محمد جمال باروت؛ بعنوان "العلاقات العربية التركية (1918 - 1923): السيرورة والتاريخ والمصائر" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023)، وهو يُغطّي جانباً غير معروف بما فيه الكفاية يصبّ في مدخلات ومخرجات "معاهدة لوزان" بشكل مباشر أو غير مباشر.

والمقصود هنا هو المحاولات والاتصالات بين جهات عربية محبَطة من وعود "الحلفاء" للعرب بدولة عربية مستقلّة وبين الحركة- الحكومة الكمالية المناهضة لإملاءات الحلفاء، والتي نجحت بالجمع بين الحرب والدبلوماسية في انتزاع استقلال تركيا الحالية من براثن سايكس- بيكو في "معاهدة لوزان" 1923. وللأسف، لم ينل هذا الكتاب الضخم (871 صفحة) ما يستحقّه من اهتمام، لكونه صدر في وقت انشغلت المنطقة بالحرب على غزّة، وهو يستحقّ أن تُخصَّص له طاولة مستديرة لمناقشة الطروحات الواردة فيه، والتي يمكن أن تغني التوجّهات البحثية في الفترة القادمة لـ"المؤرّخين الجدد" أو المؤرّخين الشباب.

بحثٌ في مداخل ومخارج الصلات العربية مع الحركة الكمالية

ويلفت الكتاب النظر إلى أمرين متداخلين قبل الدخول في أطروحاته. فالمؤلّف، محمد جمال باروت، عُرف بالجلَد في سبر المجالات الإشكالية في تاريخ بلاد الشام، والخروج بطروحات جديدة يُفترض أن تثير الاهتمام والنقاش لما هو موروث من "المؤرّخين القدامى" (جيل عبد الكريم غرايبة وغيره) و"المؤرّخين الجدد" (جيل وجيه كوثراني وغيره) وما هو متوقّع من "المؤرّخين الشباب" المتحرّرين من الأجندة غير الأكاديمية.

وأمّا الأمر الثاني، فهو يعكس الفرق بين نتاج البحث الفردي والبحث المؤسّسي، أو نتاج الباحث في مؤسّسة بحثية. فقد أُتيحت للمؤلّف مصادر ومراجع باللغات العثمانية والتركية والألمانية والإنكليزية والتركية سمحت له بخوض موضوع شائك مثل مداخل ومخارج الصلات العربية مع الحركة - الحكومة الكمالية التي ألغت السلطنة العثمانية أوّلاً (1922) وأبقت على الخلافة فقط خلال 1923 كورقة ضغط على مؤتمر لوزان، ثم ألغتها عام 1924.


بين الأحلام والأوهام

يرتبط هذا، أيضاً، بصورة مصطفى كمال أتاتورك، الذي عرف كيف يلعب بكافّة الأوراق الوطنية والقومية والإسلامية حتى يحصل على ما تمكّن من الحصول عليه في مؤتمر لوزان 1923، وهو ما انعكس في السرديات المختلفة عنه في المنطقة العربية الساعية إلى التحرّر والتقدّم. فأنور السادات يذكر في مذكّراته "البحث عن الذات" أنّه وعى على الدنيا بصورة معلّقة في البيت عرف في ما بعد أنها لمصطفى كمال، ويعكس المؤرّخ الفلسطيني محمد عزت دروزة في كتابه "تركيا الحديثة" صورة إيجابية لتركيا الكمالية كما رآها خلال زيارته لها، بينما جرت شيطنة وزندقة مصطفى كمال مع صعود الإسلام السياسي في النصف الثاني للقرن العشرين، والذي ركّز على إلغاء الخلافة وبعض مظاهر التحديث التي أصبحت تُميّز تركيا عن دول المنطقة التي انبثقت عن الدولة العثمانية.

ولذلك لا يُعد من المستغرب أنّ الاقتراب الحقيقي الأوّل من هذا الموضوع، بالاستناد إلى الوثائق العثمانية وليس إلى السرديات القومية الأيديولوجية، حدث مع ورقة المؤرّخ العراقي فاضل بيات إلى المؤتمر الذي أُقيم في "جامعة آل البيت" الأردنية عام 1988 لمناسبة الذكرى الثمانين لتأسيس الحكومة العربية في دمشق عام 1918، وهي السنة التي انطلق منها المؤرّخ جمال باروت في كتابه الجديد، وصولاً إلى ما تحقّق في 1923؛ العام الذي كان فارقاً بين الأحلام التي تحقّقت للجانب التركي والأوهام التي انقشعت في الجانب العربي.

في مقدّمة الكتاب، يُميّز المؤلّف ما بين 1918- 1920، التي حملت الآمال الكبيرة بدولة عربية مستقلّة تمخّضت على الورق بإعلان استقلال سورية في الثامن من آذار/ مارس 1920 في مواجهة دولتين منتدبتين (فرنسا وبريطانيا) تسيطران على لبنان وفلسطين، وهي ما انتهت بعد سقوطها في 24 تمّوز/ يوليو 1920 إلى عدّة دويلات في سورية خلال الانتداب الفرنسي واستقلال لبنان والتزام بريطانيا بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين. ولذلك يُسمّي فترة ما بعد 1920 "رأب الصدع" عبر "محاولات الصلح بين العرب والأتراك وصولاً إلى دولة كونفدرالية تجمع بين تركيا والبلاد العربية بعد استقلال كليهما" (ص 23).

العلاقات العربية - القسم الثقافي

ولكن المؤلّف يعتبر أنّ الاقتراب من هذا الموضوع، الذي يثير حساسيات مختلفة بين الطرفين، ما كان يمكن أن يتحقّق بوجود "الإيستوريوغرافيات الأيديولوجية القومية الكمالية وأطروحة التاريخ القومي العربي التي اعتبرت التاريخ العثماني تاريخ نير استعماري"، ولذلك "لم يستطع المؤرّخون القوميون العرب والأتراك القيام بذلك، حيث إنّ المؤرخين الأتراك كرّسوا نظرتهم إلى الحركة العربية بصفتها حركة 'خائنة' طعنت الدولة في الظهر أيام الحرب، بينما كرّس القوميون العرب نظرتهم إلى الأتراك العثمانيّين بصفتهم مستعمرين".

ومن هنا يرى المؤلّف أنّه قد آن الأوان بهذا الكتاب لتجاوز الصور المسبقة الأيديولوجية عند الطرفين لأجل تناول التواصلات والتفاعلات والتشابكات الجديدة بين العرب والأتراك، "بما في ذلك مشاريع التفاهمات والاتفاقيات"، و"تقديم مقارنة بين حركتَي الاستقلال العربية السورية والتركية الكمالية والتفاعل بينهما" (ص 24). وربما هذه السطور المقتبسة تقود إلى ما هو جوهري في هذا الكتاب الضخم ومخرجاته.


تقاربات تكتيكية أفضت إلى اختلاف المصائر

اعتمد المؤلّف على وثائق كثيرة ومذكّرات للشخصيات المشاركة في الأحداث خلال تلك السنوات ترقى إلى ما سمّاه "مشاريع تفاهمات واتفاقيات" وحتى تمنّيات بدولة فدرالية على نمط النمسا- المجر، حليفة الدولة العثمانية التي انهارت في نهاية الحرب العالمية الأُولى، ولكنّها لم تُثمر كما كان يُؤمل منها، نظراً لدوافع وتعامُل الطرفين مع بعضهما خلال تلك السنوات الفاصلة 1920- 1923، التي شهدت المواجهة الكمالية لاحتلال الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان) والمقاومة السورية للاحتلال الفرنسي لسورية تحت مسمّى الانتداب الذي أقررته عصبة الأمم.

مؤرّخ عُرف بالجلَد في سبر إشكاليات تاريخ بلاد الشام

وفي حين أنّ المواجهة الكمالية للحلفاء اعتمدت على مرجعية قومية تركية أقرّها المجلس الكبير ومزاوجة بين المواجهة العسكرية والدبلوماسية لاختراق الحلفاء، كان الوضع على الجانب العربي مختلفاً بعد مغادرة الملك فيصل سورية إلى أوروبا وعودته ملكاً على العراق، حيث برزت مقاومة مسلّحة متفرّقة في شمال سورية ضدّ القوّات الفرنسية التي كانت تواجه مقاومة عسكرية تركية قوية ذات مرجعية قومية (الحكومة الكمالية المنبثقة عن المجلس الوطني الكبير). وضمن هذه المرجعية كانت تركيا الكمالية لا تعترف بعدُ بالحدود التي قُرّرت للانتداب الفرنسي على سورية أو للانتداب البريطاني على العراق، إذ كانت تعمل أيضاً على ضمّ شمال سورية (الإسكندرون وأنطاكية وحلب وغيرها) وشمال العراق (الموصل) أيضاً.

ومن هنا يمكن فهم ترحيب القيادة الكمالية بمبادرات بعض القادة العسكريّين المحليّين في شمال سورية للتواصل والتعاون معاً ضدّ القوّات الفرنسية المحتلّة للأناضول وسورية. فقد كان من مصلحة القيادة الكمالية تزويد هؤلاء بالسلاح والعتاد لإشغال القوات الفرنسية في سورية بمعارك أُخرى لتأمين التفوّق على القوّات الفرنسية في الأناضول، وهو ما حصل بالفعل وأرغم فرنسا على الانسحاب من الأناضول وتوقيع معاهدة أنقرة عام 1921، التي كانت أوّل نصر كبير للقيادة الكمالية على الحلفاء، وهو ما ساعد على النصر الكبير الآخر على القوّات اليونانية في صيف 1922 الذي فتح الباب إلى لوزان وتوقيع المعاهدة في الرابع والعشرين من تموّز/ يوليو 1923، والتي اعتُبرت نصراً تاريخياً للقيادة الكمالية.

في هذا السياق، يبدو ممّا جاء في الكتاب الغنيّ بالتفاصيل أنّ التواصل بين الطرفين السوري والتركي كان تكتيكاً وليس استراتيجياً، أي أنّ كلّ طرف كان يدعو إليه أو يقوم بعمليات محدودة مع الطرف الآخر لأجل انتزاع مكاسب معنوية أو عسكرية من العدوّ المشترك: فرنسا التي كانت تحتلّ جنوب الأناضول وسورية. ومع معاهدة أنقرة 1921 بين تركيا الكمالية وفرنسا، التي وسّعت حدود تركيا في الجنوب لتصل إلى سكة حديد إسطنبول - بغداد وأقرّت الحكم الذاتي للواء الإسكندرون واعتبار التركية لغة رسمية، خمدت المقاومة المسلّحة في شمال سورية وزادت التطلّعات التركية فيها، بعد أن حسم قرار "عصبة الأمم" في 1926 مصير الموصل لصالح بقائها ضمن العراق تحت الانتداب البريطاني.

وهكذا تمّ الاتفاق مع فرنسا على توسيع الحكم الذاتي في لواء الإسكندرون عام 1937، وقام مصطفى كمال أتاتورك بتعيين طيفور سوكمن (عضو المجلس الوطني الكبير عن لواء الإسكندرون) لتولّي الفترة الانتقالية لضمّ اللواء إلى تركيا. ففي الثاني من أيلول/ سبتمبر 1938، أَعلن مجلس لواء الإسكندرون تأسيس "دولة هاتاي"، وهو الاسم الذي اقترحه مصطفى كمال قبل أن يتوفى في العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 1938، وانتهى الأمر بانضمام هذه "الدولة" إلى جمهورية تركيا ضمن تفاهم مسبق مع فرنسا.


الحسين بن علي وفلسطين

أمّا في ما يتعلّق بالإطار العربي الذي يشير إليه عنوان الكتاب، فقد كان يرتبط أيضاً باعتبارات تكتيكية لملك الحجاز الحسين بن علي، الذي بقي يعتبر نفسه "ملك العرب"؛ فقد أدّى رفضُه لتوقيع المعاهدة بين الحجاز وبريطانيا، التي تنصّ على اعترافه بالمركز الخاص لبريطانيا في فلسطين والعراق، خلال 1920 - 1922 إلى انتهاز بدء مؤتمر لوزان في نهاية 1922 للتعبير عن تقارب مفاجئ مع الحكومة الكمالية في ما يتعلّق بمشكلة الموصل، لكي يضغط بهذه الورقة على بريطانيا. فقد أعلن أوّلاً "الحياد الايجابي" بين تركيا الكمالية وبريطانيا، لينتقل بعد ذلك إلى مطالبة بريطانيا بالانسحاب من الموصل لصالح تركيا الكمالية. ولكن مع التوقيع على معاهدة لوزان التي حقّقت فيها تركيا الكمالية استقلالها بحدودها الحالية وتركت مشكلة الموصل لعصبة الأمم، لم يُبق للملك الحسين سوى شنّ الحملة من خلال جريدة "القبلة" على الحلفاء لـ "إغفال مصالح العرب"، وإظهار المزيد من التصلّب إزاء إصرار بريطانيا على اعترافه بانتدابها على فلسطين، وانتهى الأمر بتغاضي بريطانيا عن "خطط ابن سعود" لضمّ الحجاز إليه وتنازُل الحسين عن ملكه عام 1924(ص 823)، لتنهي بذلك سنوات الأحلام والأوهام بين الجانبَين التركي الكمالي والعربي.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون