محمد حقّي صوتشين.. زمن العربية والتركية الجديد

31 مارس 2023
محمد حقّي صوتشين
+ الخط -

عام 1993 سيتخرّج ابن مدينة إغدير التركية محمد حقّي صوتشين (Mehmet Hakkı Suçin /1970) من "جامعة أنقرة" باختصاصِ اللغة العربية؛ فرعٌ جامعيٌّ لم يكن يُنظَر إلى طلّابه - وفقاً للجوّ الأكاديمي والاجتماعي السائد في تركيا حينها - على أنّ خياراتهم وطموحاتهم في دراسة أدب شعبٍ مُجاور، ومن ثمّ التعمّق في متون لغتهِ، ستذهبُ بعيداً لتمتدَّ قوسُها من تخوم أصحاب المُعلّقات الشِّعرية وصولاً إلى الرواية العربية المُعاصرة. إذ كيف يمكنُ أن يُتصوَّرَ هذا، والنظرة النمطية القاصرة أنّ للضاد وظائف أيديولوجية مُحدَّدة لا يمكن أن تتجاوزها في عصر الحداثة الصاخب، نظرةٌ قد وجدت مَن يروِّج لها حتى بين المُتحدّثين أو المُشتغلين بعُلومها من أبنائها أنفسهم، فكيف الحال عند أكاديميا تركيّة لم تكن بعدُ قد تجاسَرت على الانفتاح على جوارها العربي؟

ثلاثون عاماً تفصلنا عن تاريخ الحصول على تلك الإجازة، هل يُمكنُنا أن نسمّيَ ذلك "تاريخاً شخصياً" فقط؟ خاصة بعد أن راكَم صاحبُه في رصيده التأليفي والترجمي بين اللغتين العربية والتركية أكثرَ من خمسين كتاباً، أم نقول إنّه الطُّموحُ الواعي وقد تلاقى مع تغيُّرات بنيوية شهدتها الجمهورية التركية؛ تغيّراتٌ لم تعُد فيها اللغة العربية منوطةً بمهامّ دينية، ولا استخدامها ينحصر في تلبية حاجات شريحة محدودة من المُجتمع التُّركي. نعم؛ عادةً ما تُدرَس أفكار الناس وتوجّهاتهم، وفق المُحدّدات السياسية لأزمنتهم، إنما هنا نرانا نعتمد التاريخ الشخصي، لنعبُرَ من خلاله صوب العامّ بين اللُّغتين/ الثقافتين. 

تنقّل صوتشين في أعوام وعقود هذه "الثلاثين"، من مَدركٍ إلى آخر في فقه العربية والتفكير "فيها"، حتى لم تعُد كلُّ هذه السّنين، وبفضل مُنجزِه المَعرفي الصَّرف، سنواتِه هو وحسب، بل قاسَمه إيّاها قرّاءٌ وكتّابٌ ترجمَ لهم، على الضفّتين. "عن الزمان المُتناهي تخلّينا"، هو شطرٌ لشاعر التركية يونس إمرة (1238 - 1328م)، افتتح به صوتشين إحدى محاضراته الموجّهة للجمهور العربي قبل عام تقريباً، ربّما كان اختيارُه عفويّاً، فأنْ تُقدّم للتركية بإمرة، شبيهٌ بتقديمك للعربية بالمتنبّي أو ابن عربي؛ ولكنْ، أليس المترجمُ - وقد أتمّ عملَه على طريقة صوتشين - أشبهَ ما يكون بتلك الدعوة إلى التخلّي عن كلّ ما هو محدود، وعن كلّ شبيه بالزمان المُتناهي الذي تحدّث عنه إمرة؟

شكّلت قصص يحيى حقّي عتبة أولى لاشتغاله بعلوم العربية

نعود إلى التاريخ الشخصي - بعد أن بيّنا أنه ليس شخصيّاً في مُطلَق ذاته، وقبل أنْ يسحبنا تيارُ اللغة أيضاً - لنستكملَ رحلة صوتشين الأكاديمية، فنجد أنّ القصة القصيرة في الأدب العربي هي أُولى اشتغالاته في المرحلة ما بعد الجامعية؛ فنٌّ لم يأخذ تمام العناية والدَّرْس النقدي، أمام استحواذ كلٍّ من الرواية والشعر - الواقع في ظلّهما - على مختلف الاعتبارات الأدبية عند النقّاد والكتّاب والقرّاء؛ ولتكون قصص المصري يحيى حقّي (1905 - 1992) موضوعاً لرسالة الماجستير التي أنجزها عام 1998، في "جامعة غازي أنقرة"، بعنوان: "الأدب القصصي عند يحيى حقّي". 

وبرواية "قنديل أم هاشم" التي أصدرها الروائي المصري عام 1940، كانت بداية رحلة صوتشين مع الترجمة؛ وعندها تقاطعت خطوطُ الاشتغال بين الأكاديمي المُنفتِح على عوالم العربية من نافذة حقّي، وبين أن يقولَ الشابّ العشرينيُّ، حينها، كلمتَه الترجمية الأُولى، في جوٍّ له حساباتُه المُختلفة أحياناً عن الأُطر الأكاديمية. فترجمةُ كتاب ونَشْرُه وتلقّيه، هذه كلّها قد تُغرقها الإجراءات التقنية، قبل أن نقول أيّ شيء عمّا يُعيقُها على المستوى الفِكري والخطابي. 

في لقاء سابق أجرته "العربي الجديد" مع صوتشين، نجدُه يستذكر أُولى خطواته في مشوار سيَمتدّ ثلاثين عاماً، يقول: "أثناء دراستي قرأتُ كلّ أعماله (حقّي) الروائية والقصصية والنقدية. في هذه الأثناء قمتُ بترجمة 'قنديل أم هاشم'. بدأتُ آنذاك ترجمة 'البوسطجي' و'يوميات نائب في الأرياف'، لكنّني لم أستطع إكمالها بحُكم ظروف العمل في ذلك الوقت. أما التلقّي لهذه الرواية القصيرة فلم يكُن بالمستوى المرجوِّ، لأن دار النشر التي نشرَتْها لم تكن تملك آليات توزيع جيّدة في أنحاء تركيا، فاقتصر تلقّيها على الأوساط الجامعية التركيّة، وعدد من القرّاء المهتمّين بالأدب العربي". 

المعلقات
"المعلّقات السبع" بترجمة محمد حقّي صوتشين

مع الألفية الجديدة أُشرِعَت أبوابٌ عديدة بين التركية والعربية، وتغيّر المناخُ السائد بشكلٍ ملحوظ، وفي هذه الأجواء تابع محمد حقّي صوتشين درسَه الأكاديمي، حائزاً، عام 2004، شهادةَ الدكتوراه من "جامعة غازي أنقرة"، أيضاً؛ وذلك عن رسالته "إشكاليات التكافؤ على مستوى المفردات والتعبيرات المسكوكة في الترجمة بين اللغتين العربية والتركية". موضوعٌ كشَف فيه عن اختصاص الخبير، وأنّ السنوات العشْر الأولى التي خاض فيها مغامرته مع العَربية بعد إجازته، بدأت توجّهه صوب الدّرْس المُعجمي لكِلَا اللسانين. 

وفي هذا السياق وقّع عناوين عديدة، منها: ترجمة "مناهج تجديد في اللغة والنحو والأدب والتفسير" (2000) لأمين الخولي؛ و"الترجمة إلى اللغة العربية بين الأمس واليوم" (2012)؛ و"أن تكون في رحاب لغة أُخرى: التكافؤ في الترجمة بين اللغتين العربية والتركية" (2013)، إلى جانب الكتب المنهجيّة لمُتعلّمي العربية الأتراك، وهذا ما ساهم في رئاسته قسم اللغة العربية في "جامعة أنقرة" منذ عام 2018 حتى يومنا هذا.

حضر الأدب الفلسطيني في مشروعه بوصفه قضية عربية أُولى

أن تُترجمَ الشعرَ شعراً، هاجسٌ أرّقَ المُشتغلين في العربية منذ عصر التدوين الأوّل، ثم مُساهمات الجاحظ وأبي هلال العسكري وحازم القرطاجنّي، مروراً ببواكير النهضة مع محاولة سليمان البستاني في الإلياذة، ووصولاً إلى زمننا الراهن، حيثُ يمكنُ عدُّ صوتشين في مصاف هؤلاء الذين يفكّرون "في العربية"، وليس فقط ينقلون عنها ومن خارجها؛ خاصة بعد أن وقّع الترجمة التركية الشِّعرية الأُولى لـ"شرح المعلّقات السَّبع" للزَّوزني، والتي صدرت عن دار "قرمزي كيدي" عام 2020، في 176 صفحة. 

ارتحلَ صوتشين مع عوالم امرئ القيس وطرفة ولبيد وأصحابهم، وهو القادم من خلفية المُعجم التركي ذي المُفردة الصوفية "المتخلِّية"، دون أن يكتفي بمحاورة عابرة أو إيحائية لثقل الجسد صورةً وشهوة، في عبارات معلّقاتية شهيرة مثل: "فمِثلِكِ حُبْلى قد طَرَقْتُ ومُرْضعٍ"، و"ببهكنة تحت الطِّراف المُعمَّد"، و"خنساءُ ضيّعتِ الفَرير فلم يَرِم".

مِن الكَشْف إلى الجَسد، هذا مدىً كاملٌ؛ ومن صاحب عُنيزة إلى اليَسَوي، و"نبيِّ" جبران، و"طوق الحمامة" لابن حزم، و"الأصنام" لابن الكلبيّ، أُفقٌ ترجميّ أنجز فيه صوتشين أعمالاً لشعراءَ عرب هُم في قلب الحداثة كنزار قباني، وأدونيس، ومحمود درويش؛ كما لم يتهيَّبْ، في الوقت نفسه، من ترجمة الأصوات الشعرية العربية الجديدة، وإعطائها حيّزاً عند قارئ تركي. 

عدنية
رواية "تفصيل ثانوي" لعدنية شِبلي بترجمة صوتشين

هذا عن ديوان العرب القديم، أي الشِّعر، أمّا وقد صارتِ الرواية "ديوانهم الجديد"، منذ منتصف القرن العشرين، فإنّ صوتشين التفتَ مبكّراً إلى السّرد مع إنتاجات يحيى حقّي، كما أسلفنا الذِّكْر؛ قبل أن تصبح الرواية العربية جزءاً أساسياً من مشروعه ككلّ. مشروعٌ استحقّ عنه "جائزة حمد للترجمة والتفاهُم الدُّولي: فئة الإنجاز" في دورتها الثامنة، والتي أُعلنت نتائجُها في الدوحة كانون الثاني/ يناير الماضي. 

كما لا بدّ من الإشارة إلى أنّ السَّرد الفلسطيني، وعلى اختلاف أسلوبيّاته وأصواته الجِيلية، شكّل عند صاحب "أن تكون في رحاب لغة أُخرى" محطّ اشتغال وتفكُّر، لا بما هو حالة أدبية وحسب، بل بحُكم مضمونه الإنساني وقضيته النضالية ضدّ الاستعمار الصهيوني. هذا ما نبَّهت إليه ترجمتُه إلى التركية لكلٍّ من "عائد إلى حيفا" و"رجال تحت الشمس" لغسّان كنفاني، والتي صدرت هذا العام، و"تفصيل ثانوي" لعدنية شِبلي، قبل عامين، والتي طُبِعَت 3 مرّات خلال خمسة أشهر فقط، فنال عنها جائزة "أفضل ترجمة"، التي تمنحها مجلّة "دنيا للكِتاب" في تركيا؛ وهي المرّة الأُولى التي يفوزُ فيها عملٌ مترجَم من الأدب العربي بالجائزة التي تُمنح منذ ثمانية وعشرين عاماً. ومثلُ قضية الفلسطينيين، حضرت قضية السوريين أيضاً في ترجماته، إذ نقل إلى لغة ناظم حِكمت مجموعةَ الشاعر السوري نوري الجرّاح البارزة "قارب إلى ليسبوس"، عام 2019.  

حقّاً إنّ الجوّ برمَّته قد اختلفَ ما بين العَقد الأخير من القرن الماضي، وما نحن عليه اليوم؛ لا نريد أن نبالغ، طبعاً، ونتكلّم عن حالة من "الاعتراف" تمكّنت كلٌّ من العربية أو التركية من تحقيقها في رِحاب الأُخرى، فيخيّل إلينا وكأنّهما غريبتان عن بعضهما تمام الغُربة؛ على العكس تماماً، فأمام واقع حال التاريخ وشروطه، نجد أن جوَّ التسعينيات وما سبقه من عقود القرن العشرين، لم يكُن سوى "استثناء" من حضور أعمّ. إلّا أنّ ما أنجزه صاحب أوّل ترجمة شِعرية للمعلّقات السَّبع إلى التركية، وسنرى آثاره الملموسة في المستقبل القريب (ننتظر مثل هذا الانفتاح بين العربية والفارسية أيضاً)، يتمثّل في بوادر تشكُّل جيلٍ جديد صاعد من المُترجِمين الذين يُفكّرون "في العربية/ التركية" بآنٍ واحد، وإنْ كان من مرجعية تأسيسيّة، سيدينُ لها هذا الجِيل، فليس سوى محمد حقّي صوتشين.

أصدقاء لغتنا
التحديثات الحية
المساهمون