"الشعر جرح الغيب" عنوان الكتاب الذي ضمّ، على حد ما ذُكر على غلافه "الحوار الأخير" للشاعر اللبناني الراحل محمّد علي شمس الدين (1942 - 2022)، والذي صدر عن "دار الرافدين" بُعَيد رحيله في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي. إنّه حوارٌ بين شاعرَين من جيلَين وطريقتَين في الشعر. شمس الدين؛ شاعر تفعيلة بالدرجة الأُولى، ومحمد ناصر الدين شاعر قصيدة نثر. إلّا أنّ الحوار لا يقف عند هذا الفارق؛ فالشعرُ، أيّاً كانت الطريقة، هو الشعر والأسئلةُ المطروحة عليه هي نفسُها، ثمّ إنّ أيّاً من الشاعرين لا يحصر الشعر في طريقته، وبالتالي في قصيدته، إذ إنّنا، في مقدّمة محمد ناصر الدين، لا نجد فقط اعترافاً بقصيدة شمس الدين، بل إلى جانب ذلك درجة من الانبهار بها.
يقول ناصر الدين في شعر شمس الدين إنّه "اقتحاميٌّ يُقرأ بالجهاز العصبي". في ذلك أقصى ما يُمتدح به شعر، إنّه يَرد قارئاً كناصر الدين إلى جلده وإلى قرارته. ناصر الدين ابن الجنوب اللبناني يقول، بل يحسّ، أنّ شعر شمس الدين يردّه، هو الجنوبي، إلى موطنه الأوّل "شعرٌ يصعب فكاكه عن الأرض الجنوبية"، "وهو ابن الشجن الجنوبي".
الحوار بين الشاعرين هو حقّاً حوار. لكن لكلّ من الاثنين أسئلته، وكلاهما يطرح على الشعر ما يستمدّ من نظرية ومفهوم يسبقان السؤال. لعلّ أهمّية هذا الحوار هو أنه ينبش عن نظرية شمس الدين في الشعر، ونحن الذين عرفناه شاعراً في الأساس، نراه الآن مفكّراً في الشعر، ونقترب أو نكاد من نظَر له فيه.
يدعونا الحوار إلى قراءة الشاعر مجدَّداً، وإلى إعادة اكتشافه
يبدأ ناصر الدين بالسؤال عن الحداثة التي يرى شمس الدين أنّها نسبية وشبحية. لكن الكلام لا يتوقّف هنا. سرعان ما ينتقل إلى هاجس ناصر الدين إزاء شاعر من قصيدة أُخرى، إلى سؤال عن قصيدة النثر. ننتظر من رائد في التفعيلة أن يقول كلمة في هذا الشأن، ربّما تخطر لنا أسماء شعراء في التفعيلة ينكرون قصيدة النثر في الأساس ولا ينسبونها إلى الشعر، أحمد حجازي على سبيل المثال. ليس شمس الدين من هذا الرعيل، إنه لا يعترف فحسب بأنّها شعر، لكنّه يبالغ في ذلك حين يقول بأنّ الشعر "ليس قصيدة نثر فقط".
لا ينفك شمس الدين يضيف أنسي الحاج ومحمد الماغوط إلى كوكبة شعرائه القريبين. ليس هذا فحسب، بل إنّ المفاجأَة الحقيقية هي أنّه، أي شمس الدين، شاعر نثر أيضاً. بل، وهو يُقرّ بأنّ قصيدة النثر "إضافة جزئية" للبناء السمفوني للشعر. يُضيف بأنّ "رُبع إنتاجي قصائد نثر"، ويستدلّ على ذلك بأنّ مجموعته "حلقات العزلة" (1993) قصائد نثر.
ذلك جديد بالطبع علينا، لكنّه يستدعي ملاحَظةً قلّما نقف عندها، أو نغفلها على الدوام، هي ما في نتاج شعراء وزن من قصائد نثر، لا تندرج، أو لا يجازفون بإدراجها، تحت هذا العنوان. لنأخذ محمود درويش مثلاً على ذلك. لا يخطر لأحد أن نصيباً يعادل الربع هو لقصائد النثر في شعر شمس الدين. لكنّنا من هنا نستشف نظرية للشاعر في الشعر، حين يقول إنّ كلّ شعر "مهما كان مادياً أو يومياً له ميتافيزيقه".
نفهم أنّ الميتافيزيق هنا ليس العبادة ولا التديّن، رغم أنّ الشاعر يُعطي للتديّن نفسه ما يتجاوز معناه التقليدي، من الميتافيزيق بوصفه شيئاً فوق العبادة. يقول شمس الدين، من المنظار نفسه: "لا شعر بلا دين ولا دين بلا شعر". في أن هذا الكلام في موازاة كلام آخر: "كلُّ شعر لا يحيلك إلى الميتافيزيق شعر فارغ"، و"مصدر الشعر كمصدر الوحي"، و"الشعر سحر، دين، غيب". الطابع النظري لهذا الكلام لا ينفكّ عن امتداد عاطفي له: "أنا ابن أذان الفجر العميق"، و"ما كتبته من القصائد يشتعل بعصب التكوين الجنوبي".
اللغة العربية، باشتقاقها العمودي، هي لغة الشعر الأُولى
حين نقرأ هذا الكلام، نفهم أنّ للميتافيزيق والدين والغيب، إلى جانب معانيها الدارجة، معاني أُخرى مستمدّة من الشعر نفسه. في موازاته للواقع ونفاذه منه، في الأنا الناطقة وكلام اللغة عبرها، في السعي للحقيقة وأشكالها الزائلة، في الغناء ونقائضه. حين يتكلّم شمس الدين بألفاظ الوحي والغيب والدين، فإنّنا هكذا لا نكون في العقيدة وحدها أو الدعوة فقط، بقدر ما نحن بدرجة موازية في الشعر.
مع ذلك يقول شمس الدين إنّه نرجسي، وإنّ قصائده المُحاكية لحافظ الشيرازي تفوق شعر هذا الشاعر. كما يُكرّر أنّ اللغة العربية، باشتقاقها العمودي، هي لغة الشعر الأُولى بخلاف بقية اللغات، ولا يمتنع عن القول بأنّ الشعر الغربي "ضعيف". هنا نجد جديداً لكنّه جديد مُعاد، بل هو نوع من الاعتداد الشخصي المُسقَط على اللغة وعلى الشعر كلّه.
رحل شمس الدين قبل عام. حوار ناصر الدين معه يُقدّمه لنا حاضراً ماثلاً. يدعونا كلام الشاعر إلى قراءته مجدَّداً من مفاتيح حواها الحديث، وإلى إعادة اكتشافه.
* شاعر وروائي من لبنان