"مرحلة النوم" لمحمد خير... تأمُّل عقلي معكوس

24 أكتوبر 2024
+ الخط -

شهد العقد الماضي صعوداً لروايات الديستوبيا التي بدت وكأنّها الحل الذي كان ينتظره الجميع للهروب من رقابة الواقع وجحيمه. لم تولد الديستوبيا العربية مع هذا العقد بكلّ تأكيد، إذ سبقتها محاولات عديدة منذ سبعينيات القرن الماضي، لنهاد شريف وصبري موسى على الأخصّ، وإن كانت أعمال شريف أقرب إلى الخيال العلمي منها إلى الديستوبيا التي نجد توافقاً حيال أنّ أوّل أعمالها العربية كانت رواية صبري موسى "السيّد من حقل السبانخ" (1982)، لتتبعها فترة صمت تجاوزت ربع قرن، قبل أن تصدر رواية "يوتوبيا" (2008) لأحمد خالد توفيق التي رسّخت هذا الجنس الكتابي.

لكنّ استسهال كتابة هذا الجنس أدّى إلى نتائج عكسية، إذ بات موضوع من لا موضوع له؛ طوفان من الروايات التي ادّعت جميعها الانتماء إلى هذا النوع الأدبي، إلى حدّ أنّ التصنيف ذاته بات غامضاً، إذ أُدرجَ فيه كلّ عمل فيه شيء من "الغرائبية". الذنب ذنب النقّاد أوّلاً، إذ ألحقوا كلّ عمل يتناول المستقبل بالديستوبيا، وأسهموا في حماسهم المبالغ فيه إلى الإعلاء من شأن أعمال هذا الجنس، لا لشيء إلّا لكونها "غير واقعية"، أو "تحرّرت من قيود الواقعية"، وكأنّ الواقع ليس ديستوبياً بما يكفي. ولكن هو "الترند" أياً يكن موضوعه.

استسهال القراءة والتصنيف سيوقِع قارئ أحدث روايات محمد خير (1978) "مرحلة النوم"، الصادرة حديثاً عن دار "الكتب خان"، في فخّ التصنيف الخاطئ. إذ برغم غرائبيّة النصّ، ووقوع أحداثه في المستقبل القريب، إلّا أنه ليس ديستوبياً، بل إن كاتبه تعمّد إقصاء روايته الجديدة هذه عن الديستوبيا، وعن أيّ تصنيف صريح آخر. ليس هذا بغريب عن محمد خير الذي تتّسم جميع أعماله تقريباً باللعب على حدود الأجناس الأدبية، بخاصّة روايته البديعة "إفلات الأصابع" (2018) التي ما تزال برأيي محافظةً على مكانتها بما هي إحدى أعظم روايات العقدين الأخيرين عربياً، وإنْ لم تحظ إلى اليوم بمكانة وقراءة تستحقّها بسبب الكسل النقدي ومحسوبيات وسطنا الثقافي الرديء، بخلاف ما لاقته من نجاح في ترجمتها الإنكليزية، ولكن هذا حديث ذو شجون ليس هذا مكانه.

تحدث وقائعها في مستقبل قريب لكنّها ليست رواية ديستوبية

"مرحلة النوم" أقرب إلى تأمّل عقلي معكوس، حيث العقل هو المفكِّر، بينما صاحب العقل هو المفكَّر فيه؛ العقل ذات وصاحبه موضوع؛ أو ربّما هي لعبة "بينغ بونغ" يتبادل فيها العقل وصاحبه مكانيهما، لتمسي ساحة التفكير عالماً فانتازيّاً يولَد في المتاهة، ويعيش ما عاشت تلك المتاهة. يبدو وارف شاهين، بطل الرواية، وكأنه يشرّح عقله، ويترك له زمام المبادرة حتى لو كانت النتيجة ضياع وارف في هذه المتاهة التي تتصادم فيها الأزمنة والأمكنة مثل الشُّهب. فكلّ ما في حياته الماضية تخبُّط وقلق، ثمّ سجن، ثمّ خروج إلى حرّية واستقرار؛ أو ربّما هو استقرار وأمان زائفان لأنّهما قناعان لعالم آخر، عالم الحاضر وربما المستقبل، عالم قارس قاس وحشيٌّ لا يرحمه ولا يرحم ماضيه، ولا يرحم ذاكرته، بل يبدو أشبه بقوارض تقضم ذاكرته شيئاً فشيئاً كي يبقى أسير هذا الحاضر المرعب.

وبسبب هذا التآكل التدريجي لذاكرته وماضيه، نجد وارف حائراً دوماً في كيفية لملمة أزمنته وإعادة ترتيبها. فالماضي ليس كاملاً، ويتناقص لحظة بلحظة، والحاضر ليس معيشاً، إذ هو ليس الحاضر الذي يريد أو يتمنّى، وهو في الوقت ذاته ليس كابوساً؛ حيرة وارف تتضاعف كلّما أوغل في هذا الحاضر لأنّه - من جهة - يسعى إلى اكتشافه كي يألفه، ويحاول - من جهة أُخرى - التملّص من التماهي معه، إذ هو حاضر غرائبيّ لا سبيل إلى إحكام الأصابع حوله. ولكنّ غرائبيّة هذا الحاضر تصطدم بدورها بغرائبيّة رائف نفسه، إذ هو - في سعيه إلى ترميم ماضيه وحاضره - يبدو غريباً على الدوام، بل ويعمل قصدياً على تغريب نفسه عن الجميع، من أشياء وأشخاص وأحداث؛ هو غريب في كلامه، وفي أفعاله، وفي أحاسيسه، بل حتى في عزلته التي تبدو فعلاً عجائبياً في زمن الحاضر القائم على "فوضى خلّاقة" من التواصل الدائم إلى حدّ الجنون.

محمد خير
محمد خير

ليس الأمر محض "نهر جنون" آخر يتخلّص المرء من مصيبته فيه حين يندمج، بل هو أشبه بسلسلة أنهار جنون متتالية لا سبيل إلى السباحة فيها كلّها، حيث يُستنفَد العُمر قبل أن تنتهي، وكأنّها مكتبة لانهائية من الأحرف والقواميس للغات غريبة لا سبيل إلى إتقانها أو حتى الإلمام بها كلّها. وتتضاعف هذه الغرائبية حين ندرك أنّ وارف يحمل جرثومة "الأَجْنَبَة" معه أينما حلّ وكيفما ارتحل في هذا الحاضر العبثي. هو الأجنبي برغم كونه صاحب المكان، هو العنصر المترجَم برغم كونه المترجِم الذي يحيط حياته كلّها بالترجمة التي تكاد تُمثّل جوهر وجوده الذي سينهار بانهيارها: فبمعزل عن عمله في الترجمة، كلّ ما في وارف مترجَم: اسمه مترجم، زمنه مترجم، أفعاله مترجمة، بل إنّ مشاعره هي أيضاً مترجمة، بمعنى عدم اندماجها في المكان.

ما يزيد غرائبية عالَم "مرحلة النوم" هو أنّه ليس كابوسياً بما يكفي، إذ ما من خوف يُكبّل وارف في حاضره هذا، بل يبدو الأمر أقرب إلى فضول متوتِّر قَلِق. ولا يحدث الرعب والهلع إلّا حين يصطدم وارف بمشهد "طبيعي"، وكأنّ عقل وارف أدرك أخيراً معنى هذا العالم الجديد، فتمزّقت أعصابه. هو أشبه بعالم موازٍ كلّ مؤقَّتٍ فيه دائمٌ، وكلّ عابرٍ مقيمٌ، وكلّ وافدٍ متجذّرٌ. هو ذاته العالم الذي حلم به وارف يوماً ما في لحظة تمنٍّ فكاهية، ثمّ دفع ثمن الحلم، حين دخل الثقب الأسود في اعتقال دام سبع سنوات، رُمي بعده إلى هذا العالم الموازي الرجراج الذي لا ثابت فيه. الأماكن هي هي، ولكنها مختلفة؛ الناس هُم هُم ولكنّهم مختلفون، فالأزمنة متقلّبة مثل أمواج بحر لا منجى منها لوارف إلّا بمرساتين سرقهما وارف من عالمه القديم، غير أنّه سيدرك لاحقاً أنّ كل ما يدخل هذا العالم الجديد سيتغيّر بحيث لا تبقى مرساة في هذا اللجّ المرعب.

رعبٌ لا ينجم عن خلفية كابوسية بل مردّه الواقع نفسه

سالي مرساته الأُولى، غير أنّها أكثر اندماجاً في هذا العالم منها في العالم القديم، ولذا تتناقص ثقة وارف بها شيئاً فشيئاً، إلى أن يصل إلى مرحلة ما عاد يُميّز فيها بين الثقة والشك، والصدق والكذب، والحنان والشفقة. وجدي مرساته الثانية الأقوى، بخاصة أنّه يذكّره أكثر بالعالم الذي مضى (مضى أم تقلَّبَ؟)؛ عالم الأحرف والأخبار والوقائع، وإنْ كانت الأخبار مُختلَقة، والوقائع مُتخيَّلة، ليُدرك وارف وندرك معه متأخّرين أنّ الأخبار المختلَقة في عالمٍ كان هو أيضاً نتاج حلمٍ مُختلَق ستلتهم خالقها، ولذا يختفي وجدي في الثقب الأسود ذاته الذي ابتلع وارف قبل سبع سنوات، أو لعلّه ثقب أسود متحوّر أسوةً بكلّ ما في هذا الزمن الرجراج.

زمن رجراج وكأنّه ماء ثقيل، وكأنّه ماء رحم، يتخبّط فيه وارف كأيّ جنين يحاول تلمّس ما حوله في هذا الكون المائي الدافئ. ولا سبيل ولا نجاة من هذا الرحم إلّا حين يُقذَف وارف في ولادة جديدة يحلّق فيها فوق هذا العالم ليُعيد تأمّله بسكينة صافية هذه المرّة لعلّه يفهم ما لم يفهمه من قبل. وكما أنّ هذا العالم رجراج لا سبيل إلى إحكام قبضتنا عليه، كذا هي هذه الرواية القصيرة التي تتملّص من بين أيدينا، بحيث تتركنا أمام إحساس غريب بأنّ ثمّة ما ينقصها لتغدو أبهى. لعلّه الإغراق في الغرائبية في بعض مفاصل الرواية بحيث تاه محمد خير قليلاً وتوّهنا معه، أو لعلّها روح القصّة القصيرة التي تسلّلت إلى هذه الرواية فتمرّدت بعض أجزائها على كلّها. أو ربّما تحتاج الرواية إلى إعادة قراءة هادئة جديدة لندرك ما غفلنا عنه في عمارةٍ سردية أُخرى في عالم محمد خير الذي يعدنا بالكثير.


* كاتب ومترجم من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون