استمع إلى الملخص
- "مؤسسة سانتاندير" في مدريد دعت مفكرين لتخيل مستقبل العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، مؤكدة على أهمية الحفاظ على القيم الإنسانية أمام التحديات المستقبلية.
- الفلسفة العربية المعاصرة تواجه تحديات في التعامل مع القضايا المستقبلية، مما يستدعي تجديد الفكر الفلسفي لمواجهة الأزمات الثقافية والاجتماعية بفعالية.
من الهواتف الذكيّة إلى الذكاء الاصطناعي، وما بينهما من اختراعات تقنيّة جديدة، تعمل التطوّرات التكنولوجية على تغيير أنواع العلاقات التي يرتبط بها الكائن الإنساني مع بيئته ومحيطه ومجتمعه، ومع الأفراد الآخرين. إنّها حالة جديدة مليئة بالمتغيّرات التي بالكاد يشعر المرء بها، فما إن يُواكبها ويلحق بها، حتّى يرى نفسه مجدّداً لاهثاً وراءها.
هذا الشعور بعدم التكيّف وعدم القدرة على الاستجابة يُغرق الكائن الإنساني أكثر فأكثر في هاوية من عدم اليقين، ذلك أنّ ابتكارات هذا التقدّم وتقنيته تتزايد وتيرتها وهيمتنها على الحياة اليومية، وبالتالي، تزداد، بالمقابل، أزمة الفكر والثقافة والفلسفة.
إذا تأمّلنا الوضع الثقافي للعالم اليوم، يُمكننا أن نرى بسهولة كيف أصبحت التكنولوجيا تُسيطر على كلّ شيء، وخصوصاً في الغرب، وفي هذا ما يؤسّس لاقتلاع الجذر الإنساني للإنسان وإلقائه في صحراء التكنولوجيا.
انطلاقاً من هذا الواقع الجديد الذي تخلقه التكنولوجيا، جمعت "مؤسّسة سانتاندير" في مدريد اثني عشر مفكّراً وفيلسوفاً إسبانيّاً من أجيالٍ مختلفة، في الحادي والعشرين من حزيران/ يونيو، وطلبت منهم تخيُّل ما يبدو مستحيلاً: مفاتيح لفهم المستقبل الذي ينتظر البشرية. والنتيجة كانت مجموعة من الأفكار التي صدرت في كتاب يتحدّث عمّا نحن ذاهبون إليه. إنها سلسلة من الانطباعات والتحاليل والأفكار والإرهاصات والاستبصارات حول شكل العالم المُقبل، أو كيف سيصبح هذا العالم.
دون العودة إلى الجذور الإنسانية، لن نتقدّم إلّا نحو الهاوية
"اثنا عشر فيلسوفاً من أجل عالمٍ جديد: إلى أين يمضي الإنسان؟" هو عنوان الكتاب الذي صدر عن المؤسّسة، حيث شارك كلُّ مفكّر بمقال تناول فيه موضوعات مختلفة، مثل: التقنية، والمستقبل، والآلة، والإنسان، والديمقراطية، والتراجيديات الإنسانية، والرقمنة، وآليّة الإنسان.
البداية كانت مع المفكّر والفيلسوف أنطونيو لاسترا، الذي يؤكّد، في مقال له حمل عنوانُه اسم الموقع الأثري في فالنسيا (بلنسية) "لا لوما دي بيتشي" - الذي عاش فيه الإيبيريون والعرب - أنّنا منذ الماضي نسلك نهجاً ملموساً إزاء مستقبل لا يقينيٍّ، ذلك أنّنا لم نتوقّف عند الجذور الثقافية التي يقوم عليها التقدّم. من دون العودة إلى الجذور الثقافية والتاريخية للكائن الإنساني، لن يكون هناك إلّا تقدّم نحو الهاوية، بأشكالها المختلفة، وليست هذه التطوّرات التقنية التي نشهدها إلّا قناعاً فاجعاً يبدو فيه الإنسان مسخَّراً لخدمة الآلة التي لا يعرف إلى أين تقوده.
تأخذ المفكّرة الإسبانية فيكتوريا كامبوس خيط هذه الفكرة، وتستند إلى أفكار حنة أرندت، لتكتب تحت عنوان "على غير هدى" أنّنا نعيش أوقاتاً مظلمة، والسبب في ذلك يعود إلى أنّه جرى انتزاع النقاط المرجعية في المجتمعات الراهنة، وهذا ما أدّى إلى هذا الارتباك الكبير الذي تعيشه الإنسانية.
أمّا كارلوس بلانكو، فيبدو أكثر تفاؤلاً من زميلَيه، فتحت عنوان "ماذا يُمكننا أن نتوقّع؟"، يُدافع عمّا هو قادمٌ، مشيراً إلى الإمكانيات الكثيرة التي تُوفّرها الابتكارات الجديدة، لا سيما في ميادين التكنولوجيا، والتي يرى فيها فُرصاً لتوسيع القدرات البشرية.
بدورها، تؤكّد الكاتبة والمفكّرة أزارا ألونسو، صاحبة كتاب "المتعة"، في مقالها "الحفاظ على حياة منهكة"، فكرةَ الوقت وأهمّيته، وتشير إلى أنّنا أضعنا معنى هذا المفهوم في عالم يسود فيه جمود نظام الإنتاج والعمل.
غير أنّ التراجيديا الإنسانية أقسى من ذلك بكثير، كما تقول آنا كاراسكو كوندي في مقالها "التراجيديا الإنسانية: كيف نسمع الألم؟"، حيث تروي مَشاهد العنف التي تغمر حياتنا، وتطبع طبائعنا وطبيعتنا في بيئة رقمية يجري فيها تقاسُم الألم والمعاناة والوجع على صفحات ومنصّات رقمية أُنشئت بهدف الترفيه. هكذا تؤكّد الأكاديمية أهمية الاستماع إلى الألم حتى لا ننجرف إلى ما تسمّيه "الاعتياد على تراجيديا الآخرين".
ولكن، إذا كنّا نحن أنفسنا ضحايا، فكيف نتعوّد على دراما الآخرين؟ يسأل خوسيه أنطونيو مارينا في مقاله "إلى أين يمضي الإنسان؟"، مُركّزاً فيه على أساليب التلاعُب التي وقعنا ضحايا لها، عن وعي أو لا وعي. ففي الوقت الذي يتمتّع فيه الإنسان بالرأي، خصوصاً على شبكات التواصل الاجتماعي، يُقدّم المفكّر الإسباني وصفات لفهم الاتجاه الذي نتحرّك فيه، وما إذا كان هذا الاتجاه هو الاتجاه الصحيح أم لا.
غير أنّ الاتجاه الذي يبدو أنّ البشرية ماضية نحوَه هو مستقبل الآلة، فهل يُمكن أن يتعايش الإنسان والآلة في عالَم جديد؟ يسأل أستاذ الذكاء الاصطناعي دانييل إنيراريتي في مقاله "نحو عالَم جديد من البشر والآلات"، ولا يستغرب أن يُخلق تناغم بين التقنيات الجديدة والبشر، فهذا التناغم، وفقاً له، ضروريُّ للتطوّر القادم، والذي سيكون حاسماً، شئنا ذلك أم أبينا.
في مكان آخر تماماً، يتعمّق المفكّر خوسيه لويس فياكانياس في مقاله "الديمقراطية ليست قدراً"، عائداً إلى أنظمة الحُكم، ومتناولاً بشكل رئيسي الديمقراطيات، حيث يرى أنّ نجاح فكرة الديمقراطية بحدّ ذاته كان السبب الرئيس في فشلها نفسه، وكنتيجة لذلك، خُلقت هياكل معيّنة لتوليد عناصر غير صالحة للعيش في ظلّ النُّظم الديمقراطية.
لكننا اليوم لا نعيش في ظلّ نظام ديمقراطي، بل في مدنية تكنولوجية رقمية، وهذه ليست إلّا إقطاعية جديدة تسيطر فيها السلطة المطلقة لأصحاب المنصّات الرقمية. ولحلّ هذه المشكلة، يدعو الكاتب والصحافي خافيير إيتشيفيريا، في مقاله "المدن التكنولوجية الرقمية: من الإنسان إلى الإنسان التقني"، إلى الابتعاد عن الأجهزة التقنية - الرقمية بما يكفي لمعرفة ما يُحيط بنا، والعودة إلى الأصل الأوّل للأشياء: الطبيعة.
تكرّس المنصّات الرقمية الاعتياد على تراجيديا الآخرين
بدورها، تؤكّد زميلته المفكّرة وأستاذة التقنيات الحديثة، يوريديس كابانييس، دورَ التكنولوجيات في الديمقراطيات والمجتمعات الحديثة، ولكنها تدعو في مقالها "فلسفة الزومبي للعيش في الانهيار" إلى ما تسمّيه "التكنولوجية المُلتزمة"، ولا يتمّ ذلك إلّا من خلال بناء شبكات تواصُل أوسع وأصلح للسكن من النماذج الموجودة.
المشكلة أنتجها الإنسان، وحلُّها عند الإنسان نفسه، هذا ما يصل إليه هيكي فريير في مقاله "اثنتا عشرة غرفة: رحلة"، داعياً إلى العودة للخيال، فالرحلة طريق تبني الأسطورة، وفيها نسافر من الخلاسية إلى الإنسان، وهنا يجب أن يتخلّص الإنسان من الغرور والكبرياء، ويطمح إلى شيء واحدٍ فحسب: حُبّ الكوكب الذي يسكنه.
لكنّ المفكّرة جوزيفا روس تجد أنّه، مهما فعل الإنسان، لن يكون سهلاً عليه تخيُّل شكل المستقبل القادم، أو شكل المجتمعات التي سيعيش فيها. ربّما من هذا الخوف وعدم اليقين، تدعو إلى التخلّص من النزعات الفردية، والسعي إلى خلق شعور مجتمعي وتأسيس أدواته.
ختام الكتاب كان مقالاً لوزير التعليم السابق أنخيل غابيلوندو، أستاذ الميتافيزيقيا، وربّما لم يكن ذلك عبثاً، بل إشارةً إلى أهمّية السياسة في بناء المستقبل الذي نريده. لكنّ السياسي والمفكّر كان متشائماً في نصّه الذي حذّر فيه من أنّ الإنسان يُودّع القيم التقليدية وطُرق الحياة التي نشأ عليها. وكي يحصل التغيير بشكل مناسب، يجب أن يمتلك السياسيون درجة عالية من الوعي، وإلّا فإنّ الإنسانية سائرة على غير هدى.
ماذا عن الفلسفة العربية المُعاصرة؟
في ظلّ الأزمات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي تعيشها منطقتنا العربية، تُولد حاجة ماسّة لمثل هذه المبادرات الفلسفية التي من شأنها أن تجد حلولاً لمشاكل الإنسان في العالم العربي. ولكن يبدو أنّ الفلسفة عند العرب صارت من الماضي، وإذا ما نُظّمت مؤتمراتٌ وعُقدت ندوات وأُلّفت كتب، فهي لتُعالج مشاكل الماضي غالباً، وكأنّ العرب لا يهتمّون للمستقبل، وكأنّ ليس لهم حضورٌ خارج دائرة الماضي، فلا تعنيهم القضايا السياسية الراهنة، ولا المشاكل الاجتماعية الحاصلة، ولا حتى المسائل الثقافية التي تمَسّ الإنسان.
ربّما كان السبب في ذلك هو أنّ الأنظمة العربية، على غرار نجاحها في انتزاع الجوهر الإنساني من مواطنيها، أي الحرّية، وعلى غرار نجاحها في إفراغ المجتمع من ذاتية الإنسان، وإنتاج "مثقّفين" يحوّلون الثقافة إلى ساحات وغى، ويخوضون معاركهم "تطبيلاً" أو "تزميراً" لخدمة نظام ما أو سلطة ما، فقد نجحت كذلك في جعل الفلسفة مجرّد إناء طنّان لا يسكُب إلّا ماء الماضي، أو في أحسن الأحوال حوّلتها إلى "أندلس" يقف كلُّ من يُعنى بالفلسفة على أطلالها كي يتذكّر ابن رشد أو ابن سينا. لكن لا شيء أبداً عن المستقبل.