مطر وزيتون وحرب

21 يوليو 2024
صالح الفرا/ فلسطين
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **موسم قطف الزيتون في فلسطين:** يبدأ مع مطر أكتوبر، يجمع العائلة في أجواء من التعاون والسرور، ويعيد الصلة بين الأرض والإنسان بطرق تقليدية تضمن جودة الزيت.
- **ذكريات الطفولة والعائلة:** تجهيزات الموسم تشمل شراء أدوات القطف وتبادل الهدايا، وأختي الصغيرة فاطمة أيقظت الأسرة مبكراً للانطلاق إلى الأرض.
- **الحرب والمفاجآت في غزة:** أصوات الانفجارات أثارت الذعر، مما أعاد ذكريات حرب 2008، وقررنا العودة للمنزل والتبضع تحسباً لأي طارئ.

إنها تمطر. أحب الصباحات الماطرة. مطر أكتوبر هذا ينتظره الفلسطيني، وأبي تحديداً، على أحرّ من الجمر. إنه موسم العيد الفلسطيني. إذ يعتبره إشارة من أمنا الطبيعة لبدء موسم حصاد الزيتون وكرماً منها لتغسل حبات الذهب الأخضر كما يطلقون عليه. يبدو هذا الصباح جميلاً. يسمى هذا الموسم بالعامية الفلسطينية موسم "جد الزتون" فيه تُجدّد الصلة بين الأرض والإنسان وتجتمع العائلة لقطف ثمار الزيتون في أجواء من التعاون والسرور.

زرع جدي الذي ولد عام 1898 "قبل نشأة إسرائيل والانتداب البريطاني" قبل أكثر من 80 عاماً، أي عام 1944، أرضه بالزيتون والتين الشوكي "الصبر" (وعائلتي "صبره" أخدت اسمها من شهرتها بزراعته)، وورثها عنه أعمامي وتعهدوا أشجارها بالرعاية كأنها أحد أبنائهم. عاش جدي عمراً مديداً، قرابة 100 عام. يقول جدي إن شجرة الزيتون تشبه فلسطين. جذورها تضرب في أعماق الأرض وأغصانها رمز للسلام وثمارها إكسير الحياة. والفلسطيني برغم كل محاولات الاستيطان على أرضه متسمك بها لآخر شبر ويقابل العطش الإسرائيلي للإبادة بمزيد من الإرادة الصلبة للحياة، يموت ألف مرة ويعود النبض بحب الوطن من جديد. 

■ ■ ■

مع بداية تشرين الأول/ أكتوبر من كلّ عام تتجهز عائلتنا من صغيرنا إلى كبيرنا لهذا الموسم. اشترى أبي سُلماً جديداً واحتفظ أخي الصغير "محمود" بقنينة زجاجية ليعبئ بها الزيت بعد عصره ويهديها لصديقته في المدرسة. نعم، نحن في فلسطين نتهادى زيت الزيتون. زيت الزيتون هو هدية لصديق، ومكافأة لناجح، وزاد للمغترب ومباركة لعروس وأكثر من ذلك.

من جهتي، أحاول إقناع أبي بشراء "براد شاي" جديد، ويصرّ على الاحتفاظ بالبراد القديم الذي أكلت منه النيران حتى شبعت واكتسى باللون الأسود. يقدّس أبي أشياءه. لا يستغني عنها بسهولة. حتى في علاقاته هو شخص يغدق على من حوله الاهتمام. دائماً يقول أغلى ما أملك في هذه الحياة هي أرضي، ومكتبتي، وأنتم "يقصد أبناءه". لا أخفيكم سراً، كنت في طفولتي أشعر بالغيرة من مكتبة أبي لانشغاله بها، وأقول له أغلى ما تملك في هذا الحياة هو أنا وأنا وأنا ثم كتبك، سأتبرع بكلّ مكتبك لمدرستي" فيجيبني مازحاً "سأتبرّع بك أنت أو سأبيعك وأشتري بثمنك المزيد من الكتب". 

لأبي وضعية جلوس غريبة الأطوار عندما يقرأ، يجلس على كرسيه الخيزراني ويمسك الكتاب بيد ويميل جانباً بثقل رأسه على اليد الأخرى. ترى هل رأس أبي مثقل بالأفكار فيستعين بيده ليمسكه أم سحر حروف العربية تتراقص كصوفي أمام عينيه فلا يتمالك نفسه. كان يجلس هكذا لساعات وبشقاوة طفل كنت أصعد لأحضانه وأغمض عينيه وأهمس في أذنيه "شطة ولا ليمون". شطة يعني أنني سأغمض عينيك بقوة أما "ليمون" يعني سأغمض عينك بلطف. فيمسك بيدي ويقبّلها ويبدأ بدغدغتي من خاصرتي وتتعالى ضحكاتي مع توسلاتي "كفى كفى".

قطف الزيتون مهم، بقدر ما كم العناء الذي نتكبده خلاله ممتع. تتوزع المهام على المجموعة. هذا يفرش الأرض وآخر يتولى مهمة قطف ثمار الأغصان القريبة وآخر يصعد السلم ليقطف ثمار الأغضان المرتفعة وآخر يحضر الفطور وآخر لا يبالي بشيء من هذا؛ يشرب كأس شاي ويتهرّب من أية مسؤولية تلقى على عاتقه. نقطف الثمار بالأيدي، وهذه الطريقة التي اعتمدها جدي رحمه الله. ويستخدم بعض آخر طرقاً أخرى، مثل القطف الآلي والكيميائي. يقول أبي إن القطف بالأيدي لطيف مع شجرة الزيتون ولا يؤذيها، كما يعطي زيتاً فاخراً. الحبات التي تسقط لوحدها أو مع الهزّ الخفيف للأغصان تذهب للكبيس ولا تُعصر، لأمور متعلّقة بجودة الزيت الناتج.

تسقط الثمار على المفارش التي توضع تحت الأشجار قبل القطف. وأثناء عملية القطف تتساقط الأوراق الكبيرة بالعمر أو المريضة مع الثمار، ويجب فصلهما قبل إرسالها إلى المعصرة أو الكبيس. تتم عملية الفصل عن طريق غربلتها بغربال أو تسليط تيار هوائي عليها. 

تبدأ فعاليات قطف الزيتون في ساعات الفجر الأولى. زيارتنا هذه ستكون للتجهيز للموسم، ولن نبدأ بالقطف اليوم. استيقظت أختي الصغيرة ذات الأربع سنوات "فاطمة" وهي لا تسمح لأحد أن ينام بعد استيقاظها وأيقظت الأسرة بأكملها. لا أحد يتجرأ ويكسر هذه القاعدة، بمن فينا قطتي "أوسكار". 

في هذا العام تجهزنا ليوم حافل. وضعنا الأغراض التي تلزم للموسم "سلم ومفارش للأرض وأواني الطبخ" في السيارة وانطلقنا باتجاه أرضنا. لم نشرب قهوتنا بعد، سنشربها في الأرض اليوم. ونتناول الفطور ثم سيذهب كل فرد منا لأشغاله. في الطريق وصلتني رسالة من صديقي الكاتب محمود البسيوني تذكرني بموعد اجتماعنا، لأنه يعاني من ذاكرة الطيور التي أمتلكها وكثيراً ما كنت أتخطى بقصد أو بغير قصد بعض التفاصيل التي يعتبرها مهمة. محمود ينشر الجزء الثاني من روايته ونحضّر لحفل توقيع الرواية معاً. يعرفني مولعة بالعربية والشعر واختارني "فخورة بذلك" عريفاً لحفله.  

■ ■ ■

ما إن وصلنا إلى الأرض حتى توالت أصوات الانفجارات. انفجارات متتالية تسابق بسرعتها دقات قلوبنا. ما هذا؟ هل هي حرب جديدة تشنها إسرائيل؟ ألم تكتف بشلال الدماء في الحروب والتصعيدات السابقة؟ لكن هذه الصواريخ تخرج من غزة. هل هو خطأ بمنظومة المنصات الصاروخية الخاصة بالمقاومة؟ أيقظتني من دوامة أسئلتي صرخات أختي فاطمة التي ملأت المكان. احتضتها بقوة وحاولت أن أهدئها. فاطمة شديدة التعلق بي، ولكن لم أفلح بالتخفيف من صدمتها. أتذكر هذا الخوف جيداً. لقد عشته في طفولتي. لمسته بيديي. رئتاي لا تخطئانه. ما زالت رائحة البارود عالقة فيهما.

مع أبجدية الحروف تعلمنا أبجدية الحروب. كنت في قاعة اختبار اللغة العربية وفي داخل القاعة تم اختبار قدرة أوتار قلبي على التحمّل، ولم أكن قد بلغت سنواتي الثماني حينها. استلمنا الأوراق وكتبتُ اسمي أعلاها، حين بدأت الانفجارات تتوالى وأصواتها تقترب من مدرستي "مدرسة القاهرة الابتدائية" الواقعة في حيّ الرمال. لم تكن كلمة حرب أو تصعيد أو صراع ضمن قاموسي بعد، ولم أكن أعرف مدلولاتها المختلفة. انتشرنا في الممرات بين الصفوف نصرخ ونتخبط. ماذا هذا؟ ماذا سنفعل؟ لماذا يحدث هذا لنا؟ أريد أن أحضن أمي! كنت ابنة الثامنة فقط.

أتذكّر حاجتي لحضن، لذلك لم أترك فاطمة للحظة. حالة الهلع كانت تسيطر على الجميع، بمن فيهم المعلمات والإدارة. لأول مرة أري معلمتي تبكي وترتجف خوفاً، فأدركت أن الأمر خطير. كان هذا في أواخر ديسمبر عام 2008 حين شنت إسرائيل حرباً شرسة على غزة وقتلت فقط في اليوم الأول 200 فلسطيني وأكثر من 400 طفل خلال فترة الحرب. في هذه الحرب استخدمت الفسفور الأبيض لأول مرة وعاودت استخدامه في حروبها التالية على غزة، وفي مجزرة مدرسة "الفاخورة" التابعة للأونروا تحديداً استخدمت هذا السلاح المحرم دولياً. وكنتُ طفلة.

قررنا العودة إلى المنزل، ونرجع في يوم آخر حين تهدأ الأمور. في طريق العودة كان المارة يتداولون أخباراً غير مؤكدة بأن عملية اغتيال قد تمت. اقترح أخي الذهاب للتبضع لأسبوع، تحسباً لأيّ طارئ وقد لا نتمكن من الخروج من المنزل. ذهبنا للبقالة والتقطنا على عجل ما نريد ورجعنا للمنزل.

ومرّ الوقت والحرب مستمرة حتى اللحظة. لا تزال الضبابية تسيطر على مجريات الأحداث. ضبابية حول ما يحدث وما سيحدث. لا يقين حول قائمة مهامي اليوم وغداً وربما لشهر. لشخص مثلي مولع بالتخطيط تستفزه هذه الفوضى. لكنها أمر طبيعي بغزة. الحياة مفاجآت لا اختلف. لكن مفآجات غزة لا تنتهي وأغلبها مفآجات غير سارة.

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون