يستدعي الحديث عن الحدود وجود فاصل بين شيئيْن متمايِزَيْن، لهما هوية بعينها وحيِّز خاص، وأن العبور إلى الناحية الأُخرى يقتضي زحزحة مكانية وانتقالاً وتحوُّلاً، بما يعنيه التحوُّل من استعداد للرضى بتغيُّرات طارئة على الذات، في أحايين كثيرة.
ومعلوم أنّ الكتابة التي عادة ما تُعدّ تعبيراً جذرُها هو [عَبَر]، ولذلك نُظِر إليها بصفتها فِعلَ عبور يُنجزه الكاتب نحو القارئ، وذلك ما يَصدُق على الترجمة التي عُرِّفتْ منذ الجاحظ بكونها نقْلاً وتحويلاً وتأويلاً، أثناء حديثه في زمانه عن حركة ترجمة نصوص لغات العالم القديم، خصوصاً اليونانية إلى العربية.
لقد تفطَّن الجاحظ، في وقتٍ مُبكِّر جدّاً من تاريخ التفكير الترجمي، إلى أن عبورَ نصوصِ لغةٍ إلى ثقافة أُخرى يُمثِّل مجازَفةً حقيقية، قد تنجم عنها أضرار وخسائر متنوّعة، لعل أبرزَها تحريفُ النص شكلاً ومحتوىً، ولربما كان الشكل لديه هو الأهَمّ، بل الحقيقة هي أنه عَدَّه الجوهريَّ في القصيدة العربية، إذا استحضرْنا ذهابَه إلى استحالة ترجمة الشعر العربي إلى اللغات الأُخرى، في قولته الشهيرة: "قال: وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلَّم بلسان العرب، والشعر لا يُستطاع أنْ يُترجَم، ولا يجوز عليه النقل؛ ومتى حُوِّل تقطَّع نظمُه، وبَطُل وزنُه، وذهب حُسنُه، وسقط مَوضِعُ التعجب [فيه]، [لا] كالكلام المنثور". وهو موقف نقدي استند فيه إلى الشعر العربي بصفته عيِّنةً، ويَصدُق على كلِّ الشعر، في كل الثقافات، لكنّه تحاشى تعميمَه، لعدَم معرفته باللغات الأجنبية على عهده، على الأرجح.
عرّف الجاحظ الترجمة بكونها نقلاً وتحويلاً وتأويلاً
وليس من شك في أن الجاحظ، استناداً إلى النص أعلاه، كان سبَّاقاً في تاريخ نظرية الترجمة إلى رسم حدٍّ للأخيرة، تقف عنده عاجزة عن إنجاز مهمّتها على أكمل وجه. ولا مراء في أنّ قراءة الجاحظ النَّهمةَ للكتُب المترجَمة، التي كان الإقبال عليها شديداً في عصره، هي التي أوعزت إليه بذلك الحكم النقدي، الذي سيُطوِّره إلى حُكم في حقّ المهمة التي يَنهض بها التُّرجمان، الذي "متى وجدناه أيضاً قد تكلَّم بلسانيْن، عَلِمنا أنه قدْ أدْخَلَ الضيمَ عليهما؛ لأنّ كلَّ واحدةٍ من اللغتيْن تجذب الأُخرى وتأخذ منها، وتعترِضُ عليها. وكيف يكون تَمكُّن اللسانيْن منهما مجتمعيْن فيه، كتمكُّنه إذا انفردَ بالواحدة، وإنما له قوة واحدة. فإنْ تكلَّم بلغة واحدةٍ اسْتُفْرِغتْ تلك القوةُ عليهما، وكذلك إنْ تكلَّمَ بأكْثَرَ من لغتين، على حساب ذلك تكونُ الترجمةُ لجميع اللغات".
ويبدو أن الجاحظَ أحاديّ اللسان سعى إلى ألّا يجتمع فيه لسانان، مخافة أن تُدخِل اللغةُ الأجنبية الضَّيمَ على لغته العربية فتُفسِدها، هذا إذا لم تذهب بنصفها لديه. وهذا يُفيد بأنه يعترف باستحالة أن يُعيدَ الترجمان إنتاجَ النصّ، الذي يُتعارَف عليه بالأصل، في ثقافة مضيفة بحيث يكون فيها مُضارعاً لأصْله لكنْ في غيرِ فضائه اللغوي الأوَّل. ولا مُسوِّغ لقبول رأيه سوى الإقرارِ بوجود سبب، لا غرو في أنه يتمثَّل في حدٍّ يَحُول دُونَ التحقُّق الكامل للانتقال الكُلّي شكلاً ومضموناً، وهو ما يعني أنّ المترجِم يُعيد إنتاج شكل ومحتوى.
وينتهي الناظر في أفكار الجاحظ الترجمية إلى أنها أصيلة، بل ومتقدِّمة على نظرات ترجمية ظهرت في العصر الحديث. وإذا كان الغربيون يتجاهلونه في التأريخ لنظريات الترجمة إلّا قلة قليلة منهم، فالمؤسِف هو أن الجهد الترجمي العربي لم يُروِّج لأفكار مؤلِّف "كتاب الحيوان"، في تواطؤ لا مُبرِّر له، باستثناء الجهد المتميِّز للناقد عبد الفتاح كيليطو في هذا الباب.
* أكاديمي ومترجم من المغرب