تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى العربية اليوم. "لا تستطيع أن تصير مُترجِماً جيّداً عبر دراسة مناهج الترجمة فحسب، بل لا بدَّ من مُمارسة وخطأ وتصحيح"، يقول المترجم السوري في حديثه إلى "العربي الجديد".
■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
منذ المراهقة بدأتُ أكوّن مهاراتي الأولى في اللّغتين العربية والإنكليزية، وبعد إتمامي للمرحلة الثانوية جاء وقت اختيار تخصّصٍ جامعي، انتبهتُ إلى أن اللّغة هي الشيء الوحيد الذي لا أملُّ من دراسته، بصرف النظر عن تعقيد المنهج وجموده، على عكس المجالات الأُخرى، التي وإن كنتُ "جيّداً" فيها إلّا أنني سرعان ما أملُّ من دراستها. اخترتُ دراسة الترجمة، وعملتُ أثناء سنوات الجامعة في الترجمة لأُحصّل دَخلاً: نصوص صحافية، وكتيّبات استعمال معدّات صناعية، وترجمة أفلام... أيّ شيء يخطر على بالك. في السنة الثالثة من الجامعة تمكّنتُ من ترجمة أوّل كتاب، وتتابعت الأمور بعدها.
■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
"غريزة اللغة" لستيفن بنكر هو آخر ما ترجمته من الإنكليزية إلى العربية، وقد صدر عن دار "صفحة سبعة".
■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
كثيرة جدّاً، ولكنّ أبرزها على الإطلاق، في رأيي، ما يعوّق تعلُّم الترجمة أصلاً. فالترجمة مهنةٌ ككلّ المِهَن: كما لا تقدرُ أن تصير نجّاراً جيّداً عبر دراسة مناهج تعليم النّجارة، فإنك لا تستطيع أن تصير مُترجِماً جيّداً عبر دراسة مناهج الترجمة، بل لا بُدَّ من المُمارسة والخَطأ تحت إشراف مَن يصحّح. وكلّيات الترجمة في العالم العربي قاصرة عن ذلك. في الواقع، لم ألتقِ بزميل - طوال سنوات كلية الترجمة - يرغبُ بأن يعمل مُترجماً، بل معظم الناس يدخلون الكلّية كي يزيدوا شهادة على سجلّهم الوظيفي؛ هذه كارثة محزنة، ومؤسّساتنا التعليمية مسؤولة عنها.
المُترجِم مسؤول أمام القارئ وأمام الأصل الذي ينقل عنه
■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
القول صحيح. ودورُ المحرِّر جوهريّ بلا شكّ. لأنه يرى - كقارئ عربيّ محض - مشكلاتٍ في النص تخفى عن عين المُترجِم، كون النصّ الأصل ما زال حاضراً في عقله. ولكنّه قولٌ مُضلِّلٌ أيضاً، إذ ليست المشكلة في أن يعترف المترجِم أو لا يعترف بدور المحرِّر، بل المشكلة أنّ هذا لم يتبلوَر بعد في العالم العربي، وما زلنا بشكلٍ عامّ لا نظهر للمُحرِّر الاحترام اللّازم. هناك آليّة دقيقة لعمل المُحرِّر والمُراجِع والمدقِّق اللّغوي في الغرب، ولها منهجيّتُها ومصطلحاتها، بينما تكاد تندمج كلُّ هذه الأدوار في مهنة "المُحرِّر" في معظم دُور النشر العربية؛ أقول معظمها وليس كلّها. دفعني ذلك إلى التعامُل مع محرِّرين جيّدين حتى قبل تسليم الكتاب إلى دور النشر.
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
علاقة جيّدة إلى حدٍّ كبير، إذ أعدُّ نفسي محظوظاً. حالياً أختار الكتب التي أترجمها بنفسي، أو يقترحُ عليّ الناشر كتاباً مثيراً للاهتمام لم يكن في بالي، فأقبله. لم تكن الحال كذلك، طبعاً، في الكتب الأُولى التي ترجمتُها. يحتاجُ المرء إلى أن يُثبت جودة عمله قبل أن تؤخذَ اقتراحاته للترجمة على محمل الجدّ.
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
نعم ولا. نعم، حيثُ سبق أن اقترحتُ ترجمة بعض الكتب لأنني متّفق مع طروحاتها في الفكر السياسي، مثل كتاب "ماركس والطبيعة البشرية: نقض الأسطورة". ولا، لأنّني لن أتّخذَ اختلافي السياسي مع المؤلّف مُنطلقاً لترجمة أو عدم ترجمة عمل مطروح. أكاد لا أتّفق سياسياً في أيّ شيء مع جيرولد م. بوست، صاحب كتاب "القادة وتابعوهم"، ولكنّني ترجمته لأنّه كتاب يقدّم علم السيكولوجيا السياسية بأسلوب ممتع جداً.
■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
أحاولُ ألّا أبدأ علاقة مع المؤلِّف. ولا أرجع إليه إلّا في حالة غموضٍ لا بدّ من توضيحه. وأرى ذلك في مصلحة النصّ المُترجَم.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
الشغف في الاثنتين واحدٌ: تقرأُ عملاً غير مترجَم وترغب في نقله إلى لغتك، أو ترغب في تقديم نصّك إلى لغتك. في الحالتين تحرّكُك رغبةٌ في التعبير عن الذات. إلّا أنّ الترجمة أصعب من الكتابة: مسؤوليّتك في الكتابة أمام القارئ وحسب، ولكنّك في الترجمة مسؤولٌ أمام القارئ وأمام النصّ الأصل.
■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
جيّدة بمكان. ولكنّها لا تكفي لتحريك الركود في الوسط الترجمي الذي هو انعكاسٌ للركود في الوسط الثقافي ككُلّ. تكريمُ إنجاز مترجَم كلّ عام أمر حسَنٌ، ولكنّه ليس حلّاً.
■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
أظنّ أنّ الحال يتحسّن شيئاً فشيئاً، فبعضُ المشاريع المؤسّساتية الحديثة جيّدٌ فعلاً، ويقدّم كُتباً مهمّة. ما أراه ناقصاً هو المشاريع المبنيّة حول مجال محدّد: الهندسة، وعلم الأحياء، والفلسفة، وعلم الأديان المقارن، إلخ. من دون وجود توجّه لتقديم المُحتوى التخصّصي الراهن في مجال معيّن، تبقى الجهود مبعثرةً مهمَا قدّمت كتباً قيّمة.
من مصلحة النص ألا تكون ثمة علاقة بين المؤلّف والمترجِم
■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
المبادئ والقواعد أشياء يطول شرحها، ولكنّني أخصُّ بالذكر واحداً منها، أشعر أنّه لا يحظى بما يستحقُّ من الانتباه في العالم العربي، وهو "غرَضية الترجمة"؛ أي أنك، بعد أن تستوعب سياق النصّ في لغته الأصلية، لا بدّ أن تسأل نفسك: لماذا نترجِم العمل؟ وأيّ هدف يسعى إليه القارئ من هذا الكتاب؟ إنّ نصاً حديثاً عن فلسفة الحياة الرواقية، مثل كتُب الفيلسوف ماسيمو بيليوتشي، يجب أن يُترجَم بما يلائم تلك الحداثة، ولكنّ نصّاً قديماً كرسائل سينيكا التي عُمرها 2000 عام لا يعقل أن يُترجم بالأسلوب ذاته. وجوهر الموضوع أن القارئ الذي يختار كتاباً عُمره ألفا عام لا يُعقل أن يجده مترجَماً إلى نثر يُشبه الصحف اليومية، بل لا بدّ أن يجد أثراً - على الأقلّ - من أسلوب المؤلِّف القديم المختلف جوهرياً. وينطبق ذلك على كلّ ترجمة؛ فالغاية من الترجمة أن تؤطّر الأسلوب النثري الذي نستعمله.
■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
لم أشعر بالندم على نصّ ترجمته.
■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
الأمر معكوسٌ قليلاً: إننّي أحلمُ بوجودُ مناهج أفضل ـ كما قلتُ أعلاه ـ داخل الكلّيات وخارجها، وأيضاً بمشاريع تحتوي المُترجِمين ضمن المجالات المختصّة. أمّا شخصياً، فإننّي أتمنّى أن أؤلّف كتاباً يشرح للمترجِمين في بداية طريقهم الأفكار النظرية اللّازمة بأسلوبٍ عَملي، فأضمّنه كلّ الأشياء التي أتمنّى لو أنّ أحداً علّمني إيّاها في بداية طريقي. مَن يدري؟ لعلّه حلمٌ من نوع ما هو الآخر.
بطاقة
مُترجِم سوري من مواليد دمشق عام 1991، يُقيم في القاهرة. نقلَ عن الإنكليزية أعمالاً عديدة منها: "القادة وتابعوهم في عالم خطير: سيكولوجيا السلوك السياسي" لـ جيرولد م. بوست (2013)، و"مُصدّق والصراع على السلطة في إيران" لـ هوما كاتوزيان (2013)، و"اليمن والقاعدة: الحرب الأميركية في جزيرة العرب" لـ غريغوري جونسون (2015)، و"ماركس والطبيعة البشرية: نقض الأسطورة" لـ نورمان گريس (2018)، و"تهمة اليأس" لـ آرثر شوبنهاور (2019)، و"رسائل من المنفى" لـ سينيكا (2019)، و"الغريزة اللغوية: كيف يخلق العقل اللغة" لـ ستيفن بنكر (2022).