سبحة الكهرمان
طواعيةً
بحبالٍ في مفاصلك
كنتَ تجرّ سفينة عائلتكَ
بين الجبال
تاركاً الربّان يرمي هياكل
الأسماك لأطفالكَ وامرأتك
على صخور الملح
كنتَ تستعين بطيران السجادة
وقت قيام الليل
وبالنظر من كوّة العملات في دكّانكَ
إلى قطعة أرضٍ ريفيّةٍ
تربّي أحفادكَ فيها بين الدجاجات
أنتَ مقيّدٌ الآن إلى سريركَ
في غرفة الجلوس
منذ سقطتْ ذاكرتكَ
كحبّات الكهرمان تحت الحوافر
لا ينجو من لعناتكَ الطارئة
سوى الحبّة الأخيرة في السبحة العتيقة
سوى اسم زوجتك.
■ ■ ■
موقد الجدّة
جسدها منسوجٌ من ألحفةٍ
وأنا وسادةٌ صغيرةٌ
نفخها النعاس بزغَبٍ
لم يغدُ ريشاً بعد
أو منقاراً بين الفخذين
ينقّب عن الدود في الثمرات...
تخبز جسد المسيح في فرنها
حيث يتأكسد خالداً الحديدُ
تُحفِّظ ببغاءَ فمي سورة الحجرات
فأبتلع الخبز واللّفظ ساخنَين
وأترك الدم والمعنى على المائدة
ليأكلهما عند العودة من الغروب
أبناؤها وأشباحٌ من كبريت.
■ ■ ■
أمّي
تحمل متراً في حقيبتها
كي تقيس لنا القمصان التي تناسبنا
تربط ظلّ أبي بخاتم زفافها
كي لا يضيع في ظلال الأشجار العالية
تفرك المرآة كلّ صباحٍ
كي لا تفزعنا الكوابيس المتواشجة
نتشاجر معها
حين ترمي أحذيتنا الرياضيّة القديمة
كي لا نركض كعادتنا إلى الوراء.
■ ■ ■
حروفٌ في أبجديّةٍ غامضة
يراقب الطفل غيوم الأغنام
حروفاً في أبجديّةٍ غامضة
تعضّ دهشته نوافذ البيت
تناوله الوالدة أجنحته المخبّأة
تفتح النافذة بيدٍ تعجّ بالخواتم
تشاهده يحلّق فوق الأشكال
يمنعه النباح من الاقتراب أكثر
يتجمّد في الهواء غير مدركٍ خطأه
يغادر القطيع ببطء
يترك اللّغة قطع روثٍ على التراب
تتّجه نحوه الأمّ
تنزله من الهواء بكلتا يديها
تطول قامتها لأنّه تعلّم الدرس
ينتظران هبوط اللّيل
يشاهدان من النافذة أجنحته
تحترق على العشب.
■ ■ ■
قدس
ما أحببتكِ يوماً
أطارد قلبي في أزقّتك
قبل أن يعثر على الطريق الذي كان يؤدّي
إلى دمشق
أطارده قبل أن يصل سكّةً في المتاحف
فيخيط شرايينه بالدخان
أنتِ مدينةٌ تثمل بالرمل في مرآتها
مدينةٌ تصنع من الغبش عتبتها
مدينةٌ تنفخ حجارتها في الأبواق
كي ترشد الجنود
ما أحببتكِ يوماً
أطارد قلبي في أزقّتك
فأعثر عليه في بئر محلّ جدّي
يلهو برصاصاتٍ رماها نسّاككِ
حين فتحتِ بخصلةٍ حمراء
أبواب حجراتكِ للغزاة.
■ ■ ■
قطار القدس - يافا
أقضي حاجتي في دورة مياهٍ كانت محطّةً ذات يوم
أغسل يديّ محدّقاً إلى القطار في الصورة المعلّقة على الحائط
يتّسع الإطار فيخرج دخانٌ يحكّه الصّفير جارّاً العربات خلفه
أجلس قرب النافذة رامياً في الهواء عملةً لم تصدر بعد
يطير الاسم المقدّس باللّغات الثلاث منجذباً نحو ثقب الرّصاصة في المنتصف
يطير التاريخ محفوراً بين أبجديّتين تُكتبان من جهة اليمين
وتطير أوراق زيتونٍ قطفها غراب الفُلك محكومةً بالرقص
حول البئر
تسقط الدائرة في يدي دون أن أنظر أيّ اسمٍ منحتْني رمية النرد
ألمح قطاراً معاكساً يعجّ بالجنود المصابين
أكون ميْتاً وحيّاً في الوقت ذاته كقطّة الفيزيائيّ
ألعن الإمبراطوريّات جميعها متناولاً بندقيّتي العثمانيّة
أُصاب برصاصٍ إنكليزيٍّ وآخر يفوح برائحة البرتقال
أعود ممتلئاً بهواءٍ تُقلب فيه الجبال ينحتُ بالرئتين نظراتٍ
من الملح
ثمّ أشاهد ــ في قطارٍ يتّجه نحو البحرــ أحد الأسماء وهو يسقط في اليد.
■ ■ ■
غبار الطلع
كنّا صغيرين وقتها، نتّسع في أكياس أمّهاتنا للتسوّق، لا نخرج منها سوى لنلعب دور الكبار في مسرحيّة التقليد.
كانت سرّتكِ الحمراء تنصب فخّاً للنحل، وكلّما بكيتِ في عينَي صقرٍ في رئتيّ، غدت كلّ دمعةٍ فيلاً يجرّ النبع إلى السّحب.
كنّا كلّما مررنا قرب الغرفة المهجورة في بيتكم، ننظر من النافذة بخبثٍ، نتعانق في خوفنا، ونلد عجوزاً بعينٍ واحدة.
بعدها، نركض نحو الأرجوحة السوداء، نمسك جيّداً، ونصدم جسدينا بسفينةٍ تعضّ أشرعتَها الفراشات، تنقل وميضاً مرتعشاً بين نجمتين.
■ ■ ■
صخور اللحاف
ارشقي نوافذي بحدقات أسماكٍ، شهدَت العاصفة المنسوجة بأشواك نحلٍ تشرّب الأسرّة في العناقيد. في بسيطةٍ كهذي لم يشارك ترابُ أسلافنا في صنعها، علينا أن نرمي في النار كلّ ذهبنا كي نوهب جراراً تكفي نبعنا، علينا أن نعلم أنّ الجرار لا تروي إلّا إذا كُسرتْ على صخور اللّحاف. فشقّي أبوابي كما تفلق المرآة رملها بعصاً تطنّ الغمّازات حولها، تحملك إلى اسمٍ تناديك به الأملاح. واحفري وجهي سارية غيمٍ في طحالب خصركِ، كي تقود الرياح المجذّفة في النايات غنم خطواتنا على المياه، كي نضمّد بعسل الزبد لطخة فأسٍ صوّرتْ مراكب الزجاج... ثمّ نحفظ زمرّدة الأعماق في قاع أصدافٍ سيسكنها في المساء راهبٌ، يلمّع الخضرة بزيت أهدابه، تقلّد السّلاحف في نبضه ضربات المجداف.
■ ■ ■
شَعركِ حول السّرير
كان شَعركِ يضيء في اللّيل، كانت الحجرة جرّة ماءٍ معتم، وكان شَعركِ يلهث ليضيء مساماتٍ في الصلصال.
كان شَعركِ يضيء اللّيل بنمالٍ تحمل سنابل الدخان، وكنتُ أحفر في السقف بحثاً عن جِمالٍ من عنبرٍ، أو دموعٍ جوفيّةٍ جمّدتْها الغريزة وأنضجها السقوط عن الغصن.
كان شَعركِ يضيء اللّيل بكسرات جرّةٍ من حرير، وكنتِ تلهثين كي تدسّي السّرير فيها، كي تدسّي خزانة الدّمى، وتفضّي بإبرة ملكات الزمرّد قمقم العفريت.
كنتِ تطلقين في المسامات طيور السانح* الشقراء، وكنتُ ألهث كي أسدّ بالفضّة مسافاتٍ توسّعها أنفاس الذّهب.
(السانح، حسب لسان العرب، ما أتاك عن يمينك من طائرٍ أو ظبيٍ أو غير ذلك، وهو أحسن حالاً في التيمّن من البارح)
■ ■ ■
صهيل
كان صهيلنا
يرتدي الكواكب
أسماءً تتهجّؤها الرّياح
كانت البلاد تحمل ملامحنا براحتيها
فتضفر فيها غمّازاتِ العشب
كنّا نحرّك خيوط جسدينا
بأيادٍ في البحر
نرشق الزرقة بوشمٍ قرمزيٍّ
كي يحتكّ بالنشيد النبع
نستدرج بالأنفاس ذئاباً
كي تعضّ بالسفور القلب
كم كان النظر خواتم
تلمع في أصابع الفيض
إنّا
والكهرمان يملأ قمقمنا
عقربا ساعةٍ
ترتديها الرّجفة
كي تنضج كواكب الغيب.
■ ■ ■
عيناكِ
لهما لون الفيروز الذي شهد التجلّي
في خواتم أولياء لمسوا العرش
صُببتُ في القزحيّة أعضاءً تسدَّد في الجهات كلّها
اتّسع البؤبؤ فجأةً كمصيدة
فخيطت الأجزاء بأشعّة النّظر
وحين عدتُ التصقتْ كلّ يدٍ لي
بنظيرها من عينيكِ
لأعلّق هناك مثل مسيحٍ
حُرم التحديق في صليبٍ
تحرث ترانيمه قلب وحوشٍ
قُيّدتْ بأوردته.
■ ■ ■
ولادة
ولدتُ على حافّة البئر
بذنبٍ لا أعرفه
ربّما التهمتُ أخاً لي في الرحم
ولدتُ هرِماً أتأمّل في كفّي
وجوه قتلاي الذين لا أسماء لهم
أقضي أيّامي كعتبة بيتٍ حائرةٍ
بين الدخول والخروج:
أن أدخل في شَعر القرويّات
القادرات إن أردن على خلق بحّارةٍ
في الدلو يستمعون إلى نشيدهنّ
بلا حبالٍ تلتفّ حول السارية
أو أخرج منتظراً أن يجفّ الماء
وأن يقف قاع البئر على أصابعه
ملوّحاً بقميصٍ قُدّ من جهتين.
■ ■ ■
متأخّراً
وصلتُ متأخّراً كلّ شيء
كان عليّ أن أجيء قبل ميلادي
لكنّي ربطتُ حبلي السرّيّ حول العتبة
كي لا تطردني أمّي إلى البيت
وصلتُ متأخّراً سنتي هذه
لا عمل في يميني ولا زوجة في يساري
كان عليّ أن أختار الآن المدرسة لولدي البكر
الذي قلّد والده كعادة الأطفال.
■ ■ ■
قندس
اخترتُ أن تحلّ روحي بعد مماتي
في جسد قندسٍ
أسبح في تيّار النهر
ناقلاً الطين والحجارة وأغصان الأشجار
كي أبني سدّاً يبطئ الغدق أحصّن فيه حجرتي
أستريح في راحة يدها مكوّراً تعبي تهويدةً
فأسمع حَبْوَ حوتنا الكونيّ في العماء.
■ ■ ■
أهرم مجدَّداً
عكّازٌ من خشب الزوارق المثقوبة
يرسم طريقي
نايٌ موشومٌ بدقّةٍ على الحجارة
يفرّق قطيعي
أهرم مجدَّداً
لا وقت لتشييع الطيور في مفاصلي
أمشي في طريق الماعز الجبليّ
سامعاً أجراس الأثداء
تهدهد النّبع.
■ ■ ■
الصيف الأخير
قريباً سوف يأتي الصيف الأخير
كي يصنع منّي أوشحةً
لكائنات الذكرى
قريباً ستسطع بحيرةٌ في اشتعال سمائي
ويسقط منقار طائرٍ سريري
على صخرةٍ من الدّمى
سأبحث عن جسدي في ملابسي القديمة
سأودع ظهر نملةٍ قرصتني في طفولتي
اسمي الإلهيّ
وسأجلس كمن يحدّق في تشكّل الغيوم
مسترقاً النظر إلى فمٍ ينشف في كفّي
منتظراً أن يرسم النمل
بحبوب السنابل طريقي.
■ ■ ■
رباعيّات الخيّام
تجعل إحدى الأساطير المرويّة عن السيّدة منديلها صولجاناً، أو عصاً سحريّةً تعيد رأب البحر المنفلق كقمرٍ فوق الكعبة، فتروي مقرّعةً أنّها أقامت حفلةً للجنود في حزيران، وحين أفاق الملتحفون رباعيّات الخيّام، وجدوا حطام الطّائرات، حطام جسرٍ هوائيٍّ أفلت انكساره أرض الميعاد، فسافرتْ بعيداً كجنّةٍ في نشيد، وغدت جزيرةً في بحرٍ سابعٍ يحرسها خاتم سليمان. ما لم تذكره الأسطورة أنّني كنتُ أحد الجنود قبل الحليب الأسود، وأنّني وقفتُ على أطلال الطّائرات، مبصراً الدخان يمشي الهُوَينى على نفسه، فلم أندم على ليلتي، وأضأتُ هاتفي المحمول بصوتها، فسقطتُ في حنجرتها الذهبيّة، مثل شهابٍ يشعل جنّيّاً يستمع على كرسيٍّ في السماء.
■ ■ ■
السيمفونيّة البطوليّة
أضع "اللّابتوب" قرب الوسادة
وأستمع إلى السيمفونيّة الثّالثة لبيتهوفن
(دون أن أعرف اسمها الآخر)
لا أفهم شيئاً ممّا تحاول الموسيقى
"قوله"
وذلك ما يهمّ في نهاية الأمر
فالموسيقى داخلي إيقاع كوكبٍ
لا يدور حول نجم
تُحرّرني من ذنب ما لا أعرف
وأيّ محاولةٍ للحديث عنها
اعتداءٌ على حقّها في "الصمت"
كإفلات قطيع وجوهٍ في لوحةٍ من الأرابيسك.
* شاعر من فلسطين. والقصائد من مجموعة "بحثتُ عن مفاتيحهم في الأقفال" التي فازت بـ"جائزة القطان للكاتب الشاب" في دورتها الأخيرة وتصدر قريباً عن "الأهلية" في عمّان