لم أكن أرغب في شيءٍ، خلال طفولتي، سوى أن أمارس كرة القدم. لا لأجل المال والاحتراف. كنتُ طفلاً وحيداً يعاني من عواطفه، وكانت هذه الرياضة نوعاً من "التطهير"، طقساً قادراً أن يقلّص في لحظات الذروة الكرةَ الأرضيّة إلى أُخرى تنقاد بالجسد.
تجلس جدّتي في المساء أمام النافذة الكبيرة/ تقطّع لنا التفّاح ثمّ تضعه على الطولة/ مثل نارٍ تتجمّع حولها أجساد بناتها/ يزيد وجودنا صمتها حدّةً/ كأنّنا صخورٌ تمتصّ موجاتٍ تخرج من ثوبها/ ولا تجد شاطئاً تمنحه رذاذها/ ينعكس طيف جدّي في زجاج الصحن.
سأل الأطفال آباءهم عن نوعه، فلم يعرفوا، ثمّ سألوني عن الاسم الذي اخترتُه له، فأجبتُهم أنّني لن أسمّيه، إذ لا أشعر أنّه يحتاج اسماً، أو أنّه سيأبه به. شجّعوا بعضهم بعضاً، فكثرت الأيادي التي تضغط على جسده. استعدتُه منهم ممسكاً إيّاه برفقٍ.
يا من أشعلتَ الخُضرة في رمل سيناء/ كي تُعلّم موسى أبجديّة الإله/ فرسُكَ الأخير يمضغ العشبَ في نفَقٍ من تراب/ فرسُكَ الأخير معقوصٌ في ناصيته الضياء/ فامتطْه الآن بُراقاً كي تصرع/ من أجل شعبك/ تنّين الخراب.
ارشقي نوافذي بحدقات أسماكٍ، شهدَت العاصفة المنسوجة بأشواك نحلٍ تشرّب الأسرّة في العناقيد. في بسيطةٍ كهذي لم يشارك ترابُ أسلافنا في صنعها، علينا أن نرمي في النار كلّ ذهبنا كي نوهب جراراً تكفي نبعنا، علينا أن نعلم أنّ الجرار لا تروي إلّا إذا كُسرتْ.
كلّما تشاجرت مع والديّ، أو المعلمين، أو الأصدقاء الآخرين، كانت تحيطني بأسوارها وتطير بي تاركةً جسداً أصمّ في مكاني لا يأبه بما حوله. وأحياناً، حين لا أكون قادراً على الخيال، كنت أنتقم منهم قائلاً في سرّي: "بفرجيكم لمّا أبني القلعة".
أوقفني الضجر على باب البلدة المقدّسة/ أردت الدخول من كلّ أبوابها في الوقت ذاته، فلم أفلح/ أخفضت العدد في كلّ مرةٍ بلا فائدةٍ/ وقفت حائرًا منتظرًا لمعةً في جناح حمامة/ وعندما اقتنعت بالدخول من الباب الأكبر سبقتني إليه بقيّة الأبواب.
في معرض "اقتراب الآفاق" المتواصل في "المتحف الفلسطيني" في بيرزيت حتى نهاية شهر كانون الأول/ ديمسبر الجاري، أعمالٌ لخمسة وثلاثين فنّاناً فلسطينياً تستكشف تحوّلات المشهد الطبيعي وعلاقة الإنسان بالمكان والأرض المحتلة من خلال ثيمات المحو والتفتيت والمسافة والانتماء.
ما الذي نكتبه سوى ما يلهث/ كي يقبض على مشهدٍ من طفولة/ حين أكتب:
"ركبتك كالبحر ترجّ الوقت لينزف"/ ألا يعني ذلك أنّي أهمس:/ "باب المطبخ شراعٌ في موج التراب"؟/ ألا يعني أنّي أحنّ لصباحٍ باكرٍ/ يرتدي قرطاً من صياح الديك؟
تجلسين على الشاطئ الذي لا يزال يتذكّر صنادلك القديمة/ تشبهين صدفةً صامتةً تحرس صوت البحر الأشدّ قدماً/ تلطّخك الشمس بريشتها المقدّسة/ لكنّك لا تنتبهين/ تعجّ عيناك بحجارةٍ أجهدتها الطحالب/ تعودين إلى البحر/ بعد أن تشاهدي الحجارة تصنع دوائر تفتقر للمركز.