يبدو اليومَ بعيداً ذلك الزمنُ الذي كان فيه لبعض دور النشر العربية حضورٌ مؤثّر وهوية معروفة في المشهد الثقافي. ولعلّ الدُور البيروتية تُعطي مثالاً جيّداً على هذا، وهي التي كانت، حتى العقد الأول من القرن الجديد، "عصَباً" أساسياً للحراك الأدبي والثقافي العربي، لتُصبح اليومَ ظلّاً لماضيها ذاك. أمّا الدور الجديدة التي حلّت مكان الأسماء المعروفة في مشهد النشر، فنادرةٌ من بينها تلك التي يمكن أن يُقال إنها تحمل مشروعاً واضحاً، أو إن لها خطّاً تحريرياً يمكن تمييزه ويمكن وصفه بالإضافة إلى المشهد النشري العربي.
على علّاته، يبقى عالَم النشر مختلفاً تماماً في فرنسا. والمقصود بالعلّات هُنا هي هيمنةُ حفنةٍ من الدور، أو بالأحرى من الشركات الكُبرى، عليه، حقوقاً ونشراً وتوزيعاً وجذباً للموظّفين والمؤلّفين. لكنّ هذه الهيمنة لم تحُلْ يوماً دون وجود دور متوسّطة وصغيرة، تُعَدّ بالمئات، وربما بالآلاف، وتزوّد المشهد النشري في البلد بما لا تستطيع الدور الكبرى تزويده به دائماً: بأفكار جديدة، ورؤى مختلفة عن السائد، وبالشعر الجديد، وبالأسماء التي لا تدخل في مصفاة الشركات الكُبرى.
منشورات "لا فابريك" واحدةٌ من هذه الدور المتوسّطة والصغيرة، ومن أكثرها حضوراً في عوالم الثقافة الفرنسية، ولا سيّما في الجانب اليساريّ منها. اليوم، تحتفل الدار، التي أسّسها الكاتب والطبيب إريك هازان (1936)، بمرور خمسةٍ وعشرين عاماً على خروجها إلى الضوء (1998)؛ وهو حدثٌ لا يقتصر، كما يبدو، على "لا فابريك" وحدها، بل تشاركها فيه مكتباتٌ عديدة، وبالتأكيد قرّاءٌ عديدون، في أكثر من مدينة فرنسية: من باريس إلى مارسيليا (جنوب)، ومن ستراسبورغ (شرق) إلى كون (شمال غرب).
هذا الاحتفاء الموسَّع يُشير إلى حظوة المؤسّسة الصغيرة (أقلّ من ثلاثة موظّفين دائمين...) التي استطاعت، خلال ربع قرن، أن تتحوّل إلى واحدةٍ من أبرز الدور التحرُّرية في فرنسا، رغم التنافسية ووجود العديد من الدور اليسارية في بلد جيل دولو وسيمون دو بوفوار. بل إنها وصلت إلى هذه النتيجة رغم القلّة النسبية في أعداد منشوراتها، والتي تدور في فلك الدزّينة (اثنا عشر كتاباً) تقريباً كلّ عام.
تضمّ قائمة كتّابها أسماء بارزة مثل الفيلسوف جاك رانسيير
في ظلّ محدودية الكمّ، يفهم المرء أنّ النوع هو الذي يلعب دوراً في وصول "لا فابريك" إلى ما وصلت إليه. والنوع يُحيل، هنا، إلى محتوى الكتب، وتطلُّب مؤلّفيها، وشكل منشوراتها.
وإذا ما بدأنا بالمظهر الخارجي، فإنّ أوّل ما يمكن الإشارة إليه هي بساطة التصميم: أغلفة بلا صوَر (إلّا في ما ندر) وبخلفيّات من لون واحد، مع رصانةٍ وثباتٍ في الخطّ الكتابي وطريقة رسم العناوين وأسماء المؤلّفين. هذا التقشُّف في الهوية البصرية ــ التي وضعها فنّان الغرافيك جيروم سان لوبير بييه ــ منَحَ الدار، مع الوقت، جزءاً من هويّتها العمومية. كما أنه يُعطي، بمعنىً ما، صورةً أولى عن محتوى كُتبها.
فمنشورات الدار واضحةٌ في نزعتها الفكرية والسياسية، وبعيدةٌ عن التلوُّن أو عن الرمادية، وهو، بالمناسبة، ما كرّستْه منذ عناوينها الأولى ومؤلّفيها الأوائل، إن كانوا ممّن يكتبون بالفرنسية أو ممّن ترجَمَت لهم من لُغات أُخرى: جاك رانسيير ("على حَوَافّ السياسيّ" ــ 1998، و"تَقاسُم المَحسوس: الجَماليات والسياسة" ــ 2000، و"مَصير الصوَر" ــ 2003)، وتانيا راينهارت ("تدمير فلسطين" ــ 2002) ورشيد الخالدي ("الهوية الفلسطينية ــ 2003)، وصوفي وانيش ("الحرّية أو الموت" ــ 2003).
أسماءٌ سترافقها وتتبعها أسماءٌ أُخرى بارزة، مثل ألان باديو، وإدوارد سعيد، وزيغمونت باومان، وسلافوي جيجك، وكريستين ديلفي، ومن بعدهم جيلٌ أكثر شباباً تمثّله الناقدة والأكاديمية فرانسواز فيرجيه ("نسويةٌ تفكّك الاستعمار" ــ 2019 و"برنامج للفوضى المطلقة: تخليص المتاحف من طابعها الاستعماري" ــ 2023)، والمفكّر السياسي فريديريك لوردون ("الرأسمالية والرغبة والعبودية: ماركس وسبينوزا" ــ 2010، و"العيش من دون؟ عن المؤسّسات، والشرطة، والعمل، والمال" ــ 2019).