عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر حديثاً كتاب "صعود اليمين الشعبوي الأميركي والتأثير في منظومة العلاقات الاقتصادية الدولية" لأستاذ العلوم السياسية والباحث العراقي مهند حميد مهيدي.
يقدم الكتاب تأصيلًا نظريًا للظاهرة الشعبوية، ويجمع بين أبعادها السياسية والاقتصادية، بأسلوب يجعله متناسبًا مع مختلف المستويات الثقافية والأكاديمية، كي يكون معينًا في فهم هذه الظاهرة وتجلياتها، وآفاقها المستقبلية، وتأثير ذلك كله في طبيعة النظم السياسية الغربية، وفي أنماط العلاقات الدولية في تفاعلاتها السياسية والاقتصادية؛ من أجل الحفاظ على العيش المشترك والتعاون المتبادل والمسؤولية الإنسانية، والمحافظة على إيكولوجيا الأرض، وتأمين البيئتين الاقتصادية والاجتماعية للأجيال المقبلة.
ويبيّن أنه يمكن إرجاع الصعود اللافت للشعبوية اليمينية، في العديد من الديمقراطيات الغربية، إلى انعدام "الأمن الاقتصادي" الناجم عن "العولمة"، أو ما اصطلح على تسميته "السباق إلى القاع"؛ إذ يشار إلى أن المضي في حماية اجتماعية أكبر من شأنه أن يقود إلى حماية المجتمع من "التنافر العنصري"، بينما يشير آخرون إلى أن ردة الفعل المعادية للمهاجرين تحرِّكُها "شوفينية الرعاية الاجتماعية"، ذلك أنه من المرجّح أن يرى الأشخاص الذين يتمتعون بالفعل بدرجات عالية من "الرفاه الاجتماعي"، أن المهاجرين يشكلون تهديدًا للنظامين الاقتصادي والاجتماعي القائمين.
يقدم الكتاب تأصيلًا نظريًا للظاهرة الشعبوية، ويجمع بين أبعادها السياسية والاقتصادية
يتجه أصحاب اليمين المتطرف إلى منح القضايا الاجتماعية - الثقافية الأولوية، لا سيّما القضايا المتعلقة بـ "الهوية الوطنية"؛ فهم يدعون إلى التدخل في النشاط الاجتماعي للحفاظ على التقاليد، وإنهم يؤمنون بالتفاوت بين البشر، ويعدّونه أمرًا طبيعيًّا. ويرون أيضًا ضرورة أن تكون هناك طبقة غنية وأخرى فقيرة؛ مبررين ذلك بأن ذوي القدرات المتميزة يصبحون أغنياء، بينما ذوو القدرات المحدودة يصبحون فقراء، معللين بأن الفقر قد يكون حافزًا لكي تنشط الطبقة الفقيرة ومن ثم يصبحون أغنياء، بحسب الكتاب.
ويرى المؤلّف أن النظام الاقتصادي والسياسات الاقتصادية تعدّ ملعب الليبرالية المفضل، والمعبِّرَ عن رؤاها، وتذهب أغلب الدراسات والتحليلات التي تُعنى بنشأة وتطور "اليمين المحافظ" واليمين المتطرف، إلى أنه ينشط ويطفو على سطح التفاعلات إبّان الأزمات الاقتصادية، وباستفحال ظواهر البطالة والتهميش واللامساواة بين الشمال والجنوب، علاوة على ما باتت تتركه العولمة من تعميقٍ لآثار التفاوت بين المراكز والأطراف تبعًا لمحكومية قوانين النيوليبرالية، وضوابط مشايعة النموذج الرأسمالي القائم على سطوة رأس المال الاحتكاري وتحكُّم "الشركات متعددة الجنسية"، بدعم القوى الاقتصادية الكبرى (G-7) و"المؤسسات المالية الدولية".
ويلفت إلى أن تغوّل "العولمة" وتعمقها أدّيا إلى مزيد من التفاوت؛ إذ إن حجم التفاوت بين الأقلية الأكثر غنى والفئات الأكثر فقرًا بات يشكّل فجوة تزداد يومًا بعد آخر. وهو الأمر الذي يؤدي إلى اتجاه المهمشين صوب الحركات الأكثر تطرفًا، على وفق رؤية ضحايا النيوليبرالية الذين يعتقدون أنهم يثأرون من النظام الذي أقصاهم، عبر انضمامهم إلى أيديولوجيات تضع بعضهم في مواجهة بعض لمصلحة نظام هو مصدر كل تعاستهم.
ويوضّح الكتاب أن صعود النزعات القومية على هذا النحو الملحوظ في أوروبا ولّد آثارًا على مستويين: المستوى الرسمي المرتبط بتلك الانتصارات التي حققتها الأحزاب اليمينية في الانتخابات الأوروبية، والمستوى الشعبي الذي يستبين طبيعة التعامل على مستوى الشارع مع الآخر المختلف، ومدى ترسخ الأفكار القومية في ذهن المواطن الأوروبي، والتي يجري بث الروح فيها من جديد وإعادة تشكيلها عن طريق الجماعات بغية معارضة وجود المهاجرين، تضاف إلى ذلك معدلات جرائم العنف والكراهية التي غالبًا ما تكون بدفعٍ من الجماعات اليمينية المتطرفة.
ويلفت إلى أنه في ظل سيادة الرأسمالية المعاصرة (الرأسمالية النيوليبرالية) التي قضت بدورها على النظام الاقتصادي الكينزي، ندرك أن ما طرحه منظّرو النيوليبرالية لم يتحقق؛ فبعدما وعدوا بأن نظامهم سيحقق نموًا كبيرًا في الادخار والاستثمار، ويؤدي إلى نمو اقتصادي من شأنه تحقيق الرفاه لكل المجتمع، أصبح هذا الأمر بعيد المنال.
ويرى أن سعي اليمين الشعبوي الأميركي لتقويض العولمة، والتي هي جزء أساس من مفاعيل عمل النظام الاقتصادي الرأسمالي، يشير بصفة جلية إلى أن الرأسمالية الأميركية تعتمد على قدرتها الفائقة في التكيف والتطور، وكذلك الانتقال من طور لآخر في إطار سيرورتها المرتبطة بقدرة نمط إنتاجها على المزيد من التوسع وتقليل الأرباح؛ ما يشي بتأسيس حالة يجري فيها تخطي الرأسمالية الحالية إلى حالة أخرى أقل ما يمكن أن توصف به أنها مرحلة ما بعد الرأسمالية.
ويختم بأن ما يحدث للرأسمالية الأميركية الآن ما هو إلا محاولة إضفاء لمسة اشتراكية عليها، بغية الحد من جشعها، ولا سيّما ما يتعلق بفرض ضرائب تصاعدية على الأغنياء، والسعي لتحسين منظومة التعليم وكذلك دعم الجامعات. وعلى الرغم من كل ما سلف، تظل الرأسمالية رهينة لمنطقها الخاص، الذي لا يمكنها أن تخرج عن إطاره العام، والمتعكز على تحقيق التراكم وإطلاق يد الشركات؛ لذا فإن ما مرّت به الرأسمالية من حالات مدّ وجزر في تطبيقها العملي (التدخل الحكومي على سبيل المثال)، يُعزز من الرأي القائل إن الحكومات (الإدارات) أداة طيّعة بيد الرأسمالية، وما هي إلا "سكرتارية رجال الأعمال" كما يزعم آدم سميث.