قد يُعزى خلوُّ الأدب العربي من الرواية البوليسية إلى الاستخفاف بها، وعدم اعتبارها من الأدب المتعارَف عليه، الراقي مثلًا، مع أنه يندر لكاتب ألا يمر بمرحلة بوليسية، ينكبّ فيها على قراءة شرلوك هولمز وهيركيول بوارو، وغيرهما. وهي مرحلة من المطالعة المثيرة قد لا تنتهي، وإذا استمرّ الشغف بها، فلأن الجرائم حدثٌ عالمي يومي يحيلنا إلى مآسٍ وتحقيقات وشرطة وخبراء ومطاردات.
لا شك في أنّ بعض الكتّاب راودتهم الرغبة في كتابة روايات بوليسية، ما كان يحبطهم ليس غياب الجريمة في المجتمعات العربية، بل الافتقار إلى المحقّق البوليسي. المشكلة ليست في الذكاء، فهو متوافر قطعًا، بل كيف يستعمل المحقّق الجنائي ذكاءه في حين لا ضرورة له، حتى أنه لا يحتاج لإعمال العقل أو حتى التفكير، فهو لا يجد مبرّرًا ولا دافعًا لهدر الوقت والأعصاب باستخدام أساليب بطيئة، بتوجيه السؤال وانتظار الجواب، وقراءة التعابير على وجه المتّهَم، والتقاط تناقضات روايته للحادثة، وتعثّره في الإجابة عن مكان وجُوده وقت ارتكاب الجريمة.
لن يضيّع المحقّق الوقت بشن حرب نفسية من خلال إجراءات قد تطول في حال تقيّد بالقانون، بينما يمكنه التصرّف مثل المجرم تمامًا، فيُطيح بالقانون ولا يعبأ به، ويشنّ حربًا حقيقية يُوسِع فيها المتّهَم صفعًا وركلًا وضربًا، مع وسائل تعذيب متقدّمة في وحشيتها، تلك التي تستعملها المخابرات ضد المعارضين... وأحيانًا حتى لو اعترف بالجريمة يسعى المحقّق لسهولة تجاوُب المتّهَم أن يُلصِق به جريمةً أُخرى، أو جرائم لم يُكشف فاعلها، ما دام المتّهَم من فرط التعذيب لا يجد بأسًا، طالما العقوبة نفسها. إذًا لماذا الذكاء إذا كان الضرب أجدى وأسرع مفعولًا؟ ما دام المتّهَم يعترف قسرًا من دون لفّ أو دوران. فهل نُخصّص له روايةً بحالها حتى لو كان بريئًا؟
تحتاج الرواية البوليسية إلى بيئة تتوفّر على عدالة
السببُ في اختفاء الأدب البوليسي في بلادنا أنَّ الجرائم مهما تبدّلت وتنوّعت، فالحل المطروح واحد، ومعرفة المجرم مُيسّرة من دون تعقيدات، فما المثير فيها؟ بينما المحقّق الجنائي في روايات الغرب يجهد في التفكير، الكثير من التفكير، فمثلًا هولمز يصرف الكثير من الأفيون، ويستعين بوارو بالخلايا الرمادية، للتغلّب على ذكاء المجرم. بالمقارنة معها، الرواية البوليسبة العربية مقضيٌّ عليها بالملل؛ إذ لا مفاجأة في الضرب، والحلّ معروفٌ في مطلع الرواية، بينما نشهد في القصّة البوليسية الغربية، مباريات في الذكاء، مهما طالت، يعوّض الحل المفاجئ في النهاية صبر القارئ في انكشاف المجرم.
ما سبق وأشرنا إليه لا يخلو من مزاح، لكنّه جاد، في منتهى الجد، إذ يؤدّي بنا إلى أنّ الرواية البوليسية تحتاج إلى عدالة وحرية، فلا نتصوّر أن تنشأ هذه الرواية في الزمن الستاليني، وإذا كان ظهورها من قبل على حياء لدى بعض دول الكتلة الاشتراكية، فللقبض على المجرم متلبّسًا بعدائه للتقدُّم، يعمل سرًّا على إعادة التاريخ إلى الوراء. ويشترط ألّا يكون من الطبقة العمّالية ولا من النخبة التي تتولّى قيادة المجتمع نحو الاشتراكية، إلّا إذا كان مدسوسًا. المتّفَق عليه أنه من فلول الطبقة البرجوازية التي نهبت الشعب، أو من المنشقّين الخونة.
هذا النمط سرى مفعوله إلى التحقيقات مع المنقّحين والتحريفيين والمشكوك في ولائهم، وطبعًا المعارضين. هؤلاء لا حقوق لهم، وقد لا تتعدّى جرائمهم بيانًا وُقّع، أو منشورًا وُزّع، أو اجتماعًا أخذوا فيه راحتهم في الكلام عن أنّ الإنسان أثمن رأسمال، ولو كان حسب ماركس، لكن الدليل جاهز، والشهود لا يرقى إليهم الشك، مخبرين، ومتنصّتين، وعملاء... فلا يحظى المتآمر حتى بتحقيق شكلي، قد يُعدم رميًا بالرصاص، قبل التلفّظ بكلمةٍ دفاعًا عن براءته. هذا ما اقتبسناه من البلد الاشتراكي الأم.
تسعى الروايات البوليسية إلى الكشف عن لغز، قد يستمرّ مئات الصفحات، فالمجرمون ليسوا أغبياء، إنهم أذكياء لا يُقبض عليهم إلّا بعد عناء شديد. أمّا في مسلسلاتنا الإذاعية والتلفزيونية، فيؤجَّل القبض عليه من حلقة إلى حلقة، لضرورات المطمطة، إلى أن ينكشف المجرم، فيُفرَج عن البريء المحبوس في زنزانة مظلمة يرسف في الاغلال. خلال هذه الرحلة من الفن البوليسي، يُسبَغ الذكاء على المحقّق، لمراعاة المواصفات الغربية، مع أنه لا لغز ولا كشف، ولا انكشاف.
إذا كان لا بد من رواية بوليسية، فالأساس هو الواقع، الرواية البوليسية انعكاس لوجود محقّق وجريمة ومجرم وتحقيق. أمّا الأساليب المستخدَمة، فلا يسوغها التعذيب، بل أمر واحد: القانون. عندئذ تدخل مملكة الرواية.
* روائي من سورية