ثمّة كتبٌ تشغل، حين صدورها، أنظارَ وسائل الإعلام المرئية والمسموعة في فرنسا، وأُخرى لا تحظى بأدنى اهتمام. ملاحظةٌ تصحّ، أكثر من أيّ من حقل ربما، على الأعمال التي تتناول الإسلام والمسلمين، أو الإسلام السياسي، حيث تستحوذ على التغطياتِ الكتبُ المتعجّلة، التي تُعيد إنتاج ما يقوله "مختصّو" القنوات والإذاعات، في حين تُتجاهل تماماً أعمالٌ أُخرى، رغم صرامتها العِلمية وسعيها إلى إضافة مقولاتٍ جدّية إلى النقاش. بل ربما أمكن القول إنها تُتجاهل، بالأحرى، بسبب عِلميتها وجدّيتها هاتين، أي بسبب عدم رغبتها في الكلام انطلاقاً من المعجم الشائع حول الإسلام والمسلمين في فرنسا.
من الأعمال التي تنتمي إلى هذا الصنف الأخير، الكتابُ الجماعي "تاريخ الحِراكات الإسلاموية: القرنان 19 و20"، الصادر حديثاً عن "المركز الوطني للأبحاث العِلمية" في باريس، تحت إشراف الباحثَيْن فرنسوا بورغا وماتيو ري. نتلقّف هذه الملاحظة عن ازدواجية الإعلام المرئي والمسموع في فرنسا من فرنسوا بورغا، في مداخلة مقتضبة افتتح بها ندوةً لتقديم الكتاب عُقدت أوّل أمس الثلاثاء بفرع "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في باريس، بمشاركة زميله في الإشراف على الكتاب، ماتيو ري، ومسيّر الندوة، الصحافي ألان غريش، وثلاثة من الباحثين المساهمين بمقالاتهم في تأليف العمل: ريمي مادينييه، وستيفان لاكروا، ومحمد محمود ولد محمدو.
ولن تكون ملاحظة بورغا هذه الوحيدةَ التي تشير إلى نقصٍ أو عدم فهمٍ ما، حيث سيجد المتحدّثون في الندوة أنفسهم أمام العديد من النقاط التي لا بدّ من توضيحها، وإزالة اللبس عنها، بسبب الطغيان الكبير للأفكار المسبقة والمتعجّلة أو الخاطئة، في فرنسا، حول الإسلام والمسلمين.
اختلافات كبيرة بين الإسلام السياسي الإندونيسي والعربي
وركّز كلٌّ من ري وبورغا مداخلتيهما على توضيح الخطوط العريضة المتعلّقة بطبيعة الكتاب والموضوع الذي يتناوله، حيث أشارا إلى أنّ العمل لا يطمح إلى أن يكون موسوعة حول تاريخ الإسلام السياسي، بل مساهمة في النقاش تشمل أكبر حيّز ممكن، زمانياً ومكانياً، من حركات الإسلام السياسي. صحيحٌ أن العمل لا يشمل دراسة خاصّة بالحالة التونسية، أو تلك الفلسطينية، خلال ثلاثينيات القرن الماضي، إلّا أنه يتضمّن فصولاً تدرس أحوال الإسلام السياسي في عدد كبير من البلدان، من إندونيسيا إلى المغرب العربي، مروراً بإيران والسعودية ومصر وغيرها. رقعةٌ واسعة سنقف على صورةٍ لها، وللاختلافات الكبيرة لطبيعة الإسلام السياسي فيها، مع مداخلات المحاضِرين الثلاثة.
لن يكون ما جاء به ريمي مادينييه عن الإسلام السياسي في إندونيسيا أمراً جديداً بالنسبة إلى جمهور الندوة الفرنسي فقط، بل وربما بالنسبة إلى قسم واسع من القرّاء العرب (الذين سيكون بإمكانهم، بالمناسبة، قراءة الكتاب مترجماً خلال الأشهر المقبلة). ذلك أن في "الحالة الإندونيسية" ما يخلخل التصوّرات العامة، حتى عربياً، عن هذا البلد، وعن العلاقة فيه بين الدين الإسلامي والسياسة. فالإسلام لم يكن، بالضرورة، المرجع الوحيد لدى أجيال من السياسيين المسلمين الإندونيسيين خلال القرن العشرين، والذين حافظوا، مثل كثير من مواطنيهم، على تقاليد روحية وعِرقية متعدّدة، بعضها يحمل تأثيرات بوذية وهندوسية سابقة على الإسلام. أمرٌ يمكن اختصاره بهذه العبارة التي يقولها مادينييه: إننا مسلمون، بالتأكيد، لكنّنا لسنا فقط مسلمين.
وتُضاف إلى هذه الخصوصية نقطةٌ أُخرى، تميّز الإسلام السياسي في إندونيسيا عن ذلك الذي شهدته البلدان العربية: عدم وجود مواجهة مباشرة مع الغرب. وذلك لسببين، بحسب المحاضِر: أوّلهما تنوّع المراجع الروحية والعِرقية لدى السياسيين المسلمين، وثانيهما أن الأخيرين نشأوا، إلى جانب تعليمهم الديني، على تعليمٍ غربيّ، في المدارس الهولندية التي كانت متوزّعة في البلد حتى نهاية الأربعينيات، وقت خروج المستعمر الهولندي (1800 ــ 1949)، ما خفّف من الصدام مع الغرب.
بدوره، استعرض الباحث ستيفان لاكروا، في مداخلته، أبرز النقاط التي قدّمها في مقاله الذي ضمّه الكتاب، والذي يتركّز حول الإسلام السياسي السعودي، ولا سيّما حركة "الصحوة". ومثل زملائه من المتحدّثين في الندوة، بدأ لاكروا بخلخلة عدد من المعتقدات الشائعة، قائلاً إن الإسلاموية لم تُولد، في السعودية، مع محمد بن عبد الوهاب، الذي كان إصلاحهُ إصلاحاً "ما قبل حداثياً"، بل وُلدت بعد "الحداثة" التي تلت فترة النهضة ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني. وهو يؤرّخ لهذه الولادة انطلاقاً من خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بُعيد سياسة الملك فيصل بن عبد العزيز الرامية إلى استقدام شخصيات فكرية ودينية من خارج المملكة وتسليمها مناصب عُليا في الدولة أو سلك التعليم، من أجل بناء تيار في بلده مناهض للمدّ القومي العربي وللشيوعية. أمرٌ يسمّيه لاكروا بـ"إسلامويةِ دولة"، حيث الإسلام السياسي ليس على هامش النظام الحاكم، كما في العديد من الدول، بل في قلبه.
كانت السعودية أول بلد يطبّق أفكار الإخوان المسلمين
ويلفت الباحث الانتباه إلى معلومات قد لا تكون معروفة اليوم بشكل واسع، مثل اعتماد السعودية أفكارَ الإخوان المسلمين في التعليم في تلك الفترة، وتدريس أعمال سيّد قطب في الحصص الدراسية حول الإسلام، حيث كانت السعودية أوّل بلد يطبّق مبادئ الإخوان، بحسب المتحدّث. ويضيف لاكروا أنّ الأجيال التي ستكبر مع تعليم كهذا ــ إنْ كان في المدارس أو في الجامعات التي توزّع فيها العديد من المفكّرين الإسلاميين المطرودين من بلادهم ذات التوجّه القومي (مثل سورية ومصر وحتى الهند) ــ هي التي ستُشكل، في ما بعد، ما سيُعرف بالصحوة. ولن يطول الأمر قبل أن يُسائل المنتمون إلى تيّار الصحوة التناقضات التي يقوم عليها النظام السياسي في بلدهم، حيث القول بإمارة إسلامية من جهة، والتحالف من جهة ثانية، بشكل وثيق، مع الولايات المتّحدة، التي يرونها عدوّة للبلدان المسلمة. وستبدأ هذه المساءلة النقدية بإعلاء الصوت، وباتّخاذ أشكال مختلفة من المعارضة، مع طلب السعودية التدخّلَ الأميركي إثر اقتحام صدّام حسين الكويت.
مداخلةُ الباحث محمد محمود ولد محمدو اتّخذت منظاراً أكثر شموليةً، حيث تحدّث عن المعنى المختلف تماماً الذي بات يرافق الإسلام السياسي منذ تفجيرات 11 أيلول/ سبتمبر 2001. فالنقاشات الواسعة حول الإسلام السياسي، في أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الماركسية، نُحّيت جانباً وحلّ محلّها معجمٌ شديد الاختزالية والتسطيح، يختصر ظواهر معقّدة بعبارتي "الإرهاب" و"الأمن". ستتحوّل هاتان المفردتان إلى خيطين ناظمين للنقاش، ليس السياسي فحسب، بل الفكري أيضاً، حول الإسلاموية، حيث ستتواطأ وسائل الإعلام، وكذلك الأوساط الأكاديمية، في الغرب، مع مقولات السياسيين السطحية حول المسلمين والإسلام، الأمر سيساهم في فرض السردية القائلة بأن الإسلام السياسي رديفٌ للإرهاب.
ولا يتردّد الأكاديمي الموريتاني في إدانة هذه العنصرية، بحسب تعبيره، وفي إدانة شيطنة الإسلام في الغرب من خلال مقولات حول الإسلام السياسي، ليتحوّل معها دينٌ كامل، والمؤمنون به، إلى ما يشبه الفزّاعة. وهو يذكّر، مثل زملائه المشاركين في الندوة، بأنّ الإسلام السياسي والإنسان المسلم شيئان مختلفان، وأنّ الربط الجوهراني بينهما يؤدّي بالضرورة إلى مقولات متعجّلة وسطحية، إن لم تكن عنصرية.