ديوان نوري الجرّاح الشعري "لا حرب في طروادة"، الذي نشره بالعربية عام 2019، نوعٌ نادر من الشعر العربي المعاصر؛ فعلى الرغم من طبيعته الرثائية، إلّا أنّ الارتباطات التي يخلقها، في ما يتعلّق بالحروب والعواطف الإنسانية عبر الزمن، نادرةٌ جدّاً، فهي ترنيمةٌ لاثنتين من أهمِّ ثقافات البحر الأبيض المتوسّط، واللتين تتفاعلان وتتواصلان حضارياً عبر قرون كثيرة.
إنّه جسر للزمن والتاريخ، يعجُّ بالرمزية الخالدة التي تبدأ وتنتهي في التاريخ الإنساني... وهي رمزيةٌ تحتفظ بهويّتها العربية، إلّا أنّها، في الوقت نفسه، تتناغم مع هويّات أُخرى كاليونانية، ومعها الهويّة المتوسّطية أيضاً. هكذا يُصبح القارئ، في مجموعة شعريّة واحدة، متلقّياً لثقافةٍ متعدّدة الأوجه والمعاني، الظاهر منها والباطن.
ضمن هذا الإطار، نُدرك أنَّ شعر الجرّاح عالميٌّ، بمعنى أنّه يتعامل مع قضايا عالميّة مثل الحرب، والخيانة، وتمجيد الحُبّ، والخوف، والموت، والانحلال وغيرها الكثير، كما أنّه يتطرّق إلى كثير من نقاط الضعف البشرية، التي حكمت سلوك الإنسان على مرِّ العصور، وكثيراً ما قادته إلى الدمار وإلى النصر أيضاً.
ولمّا كان الجرّاح عاشقاً للأدب اليوناني القديم والتقليد الشعري، فقد أضفى عبر قصائد مجموعته الشعرية كاملةً مثاليةً عالية على هذا التقليد الملحمي اليوناني وعلى أبطال هوميروس، إذ إنّه كَتب بإعجابٍ وأشاد بأبطالِ ملحمة طروادة. وإذ به، أحياناً، يشيدُ بتألّقهم وشجاعتهم وبسالتهم، فإنّه، في أحيانٍ أخرى، يؤكّد على مشاعرهم وعلى نقاط ضعفهم الإنسانية، موازياً في ذلك بين ظروف الحرب آنذاك، وبين حروب اليوم، سواء في الشرق الأوسط، وخاصّةً في سورية، أو في أماكن أُخرى.
تُضفي هذه الروابط، وأوجه التشابه، والمراسلات الممتازة والمتناقضة في كثيرٍ من الأحيان - والتي تُولَد بسهولة وبشكلٍ عضوي في أبياته الشعرية من خلال هذه "الشراكة الثقافية" - طابعاً فريداً على لغة القصائد وأسلوبها وخصوصية موضوعها الذي يستحق الدراسة. وليس من قبيل الصدفة أن يُطلَق على الجرّاح لقب شاعر البحر الأبيض المتوسّط الذي يكتب باللغة العربية، إذ لطالما كان المتوسّط بالنسبة إليه مجالاً نادراً للإلهام والإبداع.
ينطلق من التقليد الملحمي اليوناني ليضيء بسالة الإنسان
في الواقع، في إحدى مقابلاته معي، حين سألته: "لماذا كلّ هذا الشغف باليونان وتاريخها؟"، كان جوابه: "دائماً أعتبرُ نفسي مواطناً متوسّطياً يكتب باللغة العربية، ليس بدافع وعي أنّني سوريٌّ أنتمي إلى منطقة البحر الأبيض المتوسّط فحسب، ولكن منذ نشأتي درستُ وانبهرتُ بالتاريخ والثقافة والأدب الذي تطوّر على شواطئ المتوسّط. إنَّ الحضارات التي انطلقت من أعماق القرون تفاعلت على مدى قرون، وأثّر بعضُها ببعض بشكل كبير".
هكذا كان العصر الهلنستي، بشكل أساسي، العصرَ الذي أبهره أكثر، فأراد التعمّق فيه. لذلك بدأ دراسته منذ سنٍّ مُبكرة جدّاً. وفي الثمانينيات بدأ رحلة بحث في اليونان وقبرص، بشكل رئيسي. ففي اليونان، اكتشفَ قدموس وهوميروس وأوديسيوس. وهنا يقول: "في الواقع، كان هوميروس أوّل من أشار إلى السوريّين الذين جاؤوا في ذلك الوقت، مرّة أُخرى كلاجئين ومهاجرين إلى اليونان، ووصفهم بالحرفيّين الجديرين".
لهذا السبب، يَعتبر نوري الجرّاح الثقافة اليونانية القديمة جزءاً أساسياً من تراثه الثقافي. ليس هذا فحسب، بل إنّها ثقافة تحظى بإعجابه الذي لا نهاية له. ولذلك، فإنَّ الشاعرَ المتوسّطي ذا الوعي "اليوناني"، أو بالأحرى العالمي، يكتب، بعيداً عن أيّة شوفينية جغرافية، عن الإنسان، بغضّ النظر عن أصله أو هويّته، لأنّ كلّ ما يهمّه هو الإنسان، حيث يعيش ويحلم ويتمنّى.
* كاتبة ومترجمة يونانية. والنص مقدّمتُها لترجمة ديوان "لا حرب في طروادة" الصادرة حديثاً بتوقيعها في أثينا