استمع إلى الملخص
- تركز الرواية على شخصية هنادي، التي تعاني من مرض الأكروميغاليا، مما يعكس قبح الأحداث في لبنان. تعيش هنادي حياة مليئة بالتحديات في فرنسا، لكنها تجد الأمل من خلال العلاقات مع الغرباء.
- تسلط الرواية الضوء على التناقض بين تنكر الأقرباء ودعم الغرباء لهنادي، مما يبرز كيف أن قساوة العيش تقرب الناس. تبقى هنادي وحيدة على ضفة نهر بيروت، مما يعكس مرور الزمن وتغير الأحوال.
كثيراً ما شكّل الاشتغال على الأحداث النافرة في التاريخ القريب مرتكزاً للرواية العربية، إن بشكل مباشر، أو من خلال رصد تأثيراتها غير المباشرة على الناس الذين عايشوها والأماكن التي شهدتها. وبالنسبة إلى الرواية اللبنانية، فقد شكَّلت الحرب الأهلية (1975 - 1990) موضوعاً خاض فيه كتّاب هذا البلد، بل إنّ منهم من عاد إلى طبعاتها الأقدم في القرن نفسه (1958)، وفي القرن الذي سبقه (1860)، كما رصدوا أصداءها التالية في ظلّ الانقسام الذي لا يغيب عن أيّة قضية، سواء كانت كبرى ومصيرية أو مجرّد قضية ثانوية.
في روايتها "هند أو أجمل امرأة في العالم"، الصادرة حديثاً عن دار "الآداب"، تبدأ الروائية اللبنانية هدى بركات السرد من فترة الحرب الأهلية، زمن ولادة بطلتها، أو على نحوٍ أدقّ، بطلتيها الشقيقتَين، مروراً بمحطّات بارزة في تاريخ البلد كثير الحوادث والأحداث، وذلك على امتداد خمسة وأربعين عاماً.
هناك مثلاً الوجود الفلسطيني واشتراكه في الحرب الأهلية، والاجتياح الإسرائيلي لبيروت، والتعامل مع الإسرائيليّين والهرب إلى داخل كيانهم وتشكيل عائلة هناك، وهو ما يقدّم تفسيراً متأخّراً لغياب الأب، وهجرة أعداد كبيرة من اللبنانيّين إلى مختلف أنحاء العالم بسبب أوضاع البلد... وصولاً إلى أحداث أقرب، كالاشتراك اللبناني في الحرب السورية (تبتعد الكاتبة عن التسميات وتكتفي بإشارات لا تخفى دلالاتها)، والنزوح السوري الكبير الذي فاقم مشكلات كانت موجودة... وانتهاءً بما بعد حراك 17 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2019، وانفجار مرفأ بيروت في أغسطس/ آب 2020.
رصدٌ لأحوال اللبنانيّين وتاريخ بلدهم خلال 45 عاماً
يبدو عنوان الرواية مراوغاً، فالمذكور فيه هو عكس ما نقرأه في صفحاتها، وفي هذه المجانبة قصد. ليست هند بطلة الرواية كما يوحي عنوانها. ليست البطلة الحاضرة على الأقلّ، بل هي البطلة الغائبة، الظلّ الثقيل الذي تُلقيه الوالدة على البطلة الفعلية، التي لم تُنجَب من الأساس إلَّا لتكون تعويضاً عن الطفلة الأُولى المتوفَّاة. وليست هنادي، البديلة والبطلة الفعلية للرواية، جميلة على الإطلاق. كانت جميلة عند ولادتها مثل هند الملائكية، لكنّها أُصيبت في سنّ المراهقة بمرض الأكروميغاليا، الذي يؤدّي إلى تشوّه الجسم بسبب تضخّم العظام والمفاصل.
غياب الجمال، أو بالأحرى الحضور الطاغي للقباحة، هو ما يسم أحداث الرواية وشخصياتها الرئيسية، وهو أيضاً ما يقدّم تبريراً دلالياً رمزياً لما يمكننا اعتباره حشداً بانورامياً للأحداث، وإقحاماً لشخصية واحدة تجعلها الكاتبة شاهدة عليها كلّها. هنادي "القبيحة" تشهد قبح ما يجري في البلد الذي كان جميلاً؛ تولد في الظلام بين الدمار وعلى وقع دوي المدافع، وتكبر وسط الاضطراب والقلق وانعدام الأمان والخدمات، إلى درجة أنّها عندما تمرض لا تجد سبيلاً سهلاً للعلاج الذي كان ليجنّبها استفحال المرض لو كانت حال البلد طبيعية. ثم تدفع صاحبة رواية "أهل الهوى" (1993) بطلتها إلى الهجرة، لترصد من خلالها أحوال اللبنانيّين، قبل أن تعود البطلة وتُصاب في انفجار المرفأ.
تشهد البطلةُ قبح ما يجري في بلدها الذي كان جميلاً
تعاني هنادي النبذ والإقصاء بعد مرضها، إذ تسجنها الأمّ خائبة الأمل من خسارتها هند للمرّة الثانية في سقيفة المطبخ، بعد إخراجها من المدرسة، وتدّعي أمام زوّارها القلائل من الأقرباء أنّها أرسلتها للدراسة في مدرسة داخلية خارج بلد الحروب، الذي لطالما شكَّل حُسن المظهر الخارجي عنصراً أساسياً يعرِّف به وبأبنائه، وتتهرّب حتى من إلقاء نظرة عليها عندما توصل لها طعامها. لا يتغيّر الحال بعد هروب هنادي من العاصمة إلى عمّة لها في الجبل، ثمّ بعد أن تضعها هذه العمّة في الطائرة وترسلها إلى أخت لها في فرنسا، فضّلتها على الأخت الأُخرى التي في أستراليا.
لا يمنع أي ممّا سبق هنادي من عيش حياة طبيعية، ففي سقيفة المطبخ كانت تقرأ كُتب أبيها المبعَدَة إلى هناك، وفي باريس تلتقي عدّة أشخاص وتعقد صداقات معهم. من بين هؤلاء "رشيد"، الرجل المغاربي الغامض والمتكتّم، العسكري السابق الذي لا يحكي شيئاً عن ماضيه، والذي يعاني عرجاً في الساق، وتشوّهاً ودمامة في الوجه. يعيشان كحبيبين، متشرّدَين في إحدى الضواحي، قبل أن تفرّ هنادي منه بسبب سوء معاملته لها، وتعيش على الدعم الذي تقدّمه لها إحدى الجمعيات الخيرية، ثمّ تجد عملاً في الترجمة في مستشفى يهتمّ بلاجئين من بلدان عربية، مستفيدة من إتقانها الفرنسية التي تعلّمتها في السنوات القليلة التي قضتها في المدرسة، قبل أن تفقد قدرتها على استخدام هذه اللغة، ربّما بتأثير مرضها، أو ربّما تحت وطأة الغربة.
في مقابل تنكُّر الأقرباء للمرأة المريضة وإعراضهم عنها، تُبرِز صاحبة "ملكوت هذه الأرض" (2012) أنّ من يسأل عن بطلتها ويساعدها هُم الغرباء: رشيد نفسه، الذي ظلّت هنادي ممتنّة للأيام التي عاشتها معه والمشاعر التي بادلته إياها، والتي لا يمكن أن تتكرّر مع غيره، وأُمّ منصور؛ المرأة السورية أو الفلسطينية، جارة أُمّ هنادي في البيت الذي ورثته الابنة وسكنته بعد عودتها من باريس، ونبيل؛ الشابّ الذي يعمل عند ميكانيكي الحيّ، الآتي من الشطر الآخر من بيروت. فقساوة العيش تُقرّب الناس وتجمع فيما بينهم بقدر رابطة الدم أو أكثر، لكنّ الناس لا يدومون في الحالتين. لم يبق في النهاية سوى "النهر الذي ليس نهراً"؛ نهر بيروت القبيح بدوره، الذي يحمل النفايات ومياه الصرف إلى البحر، ويُذكّر المرأة الضخمة رغم ذلك بنهر السين، بينما تجلس على ضفّته وحيدة، تراقب عبور مائه الضحل الموحل، ومرور الزمن البطيء.
* كاتب من سورية