الطائرات الإسرائيلية المقنبِلة تدكُّ أبراج وبيوت الفلسطينيّين. الآن دماء زكية تُراق؛ أطفالٌ ونساء تحت الخرسانة، وصمتٌ عربي مُهين يسمّونه حِكمة وبُعد نظر، كما كان الحبيب بورقيبة يُطلق على حماقاته؛ فالرجُل، وفي سنة 1965، وبحكمته وبُعد نظره هو، نادى بالاعتراف بالكيان الصهيوني، بمعنى أنّ الرجل كان أوّل المُطبِّعين، عميد المُطبّعين. وكانت رحلته الشهيرة إلى أريحا وخطابُه الذي اعتبره التونسيون فتحاً في عالم الفكر السياسي وحنكةً سياسية. والحقيقة أنّه كان إخفاقاً وفشلاً ذريعاً في توصيف اللحظة التاريخية، وفي الإجابة عن سؤال: ما العمل؟
كانت رحلتُه التي كُلَّف بها اختباراً للنوايا العربية قبل شنّ حرب الخامس من تمّوز/ حزيران 1967. وكما يُقال: ما يمكن الحصول عليه بلا ثمن، فلماذا دفع الثمن؟ وفي أريحا، وأثناء خطابه الذي دعا فيه إلى الاعتراف بالكيان، تلقّى وابلاً من حبّات الطماطم على رأسه... واستمرّت هذه المطالَبة بالتقسيم إلى أن قبل بها العرب مرغمين. في تلك اللحظة، صرخ "البراقبة" من أتباعه: "ها العرب عادوا إلى أفكار وحكمة بورقيبة". ولم تكن حكمة. كانت في حقيقتها إخفاق نُخَب.
وفي تلك اللحظة التي قبل فيها العرب بالتقسيم، والاكتفاء بنصف فلسطين، قال الصهاينة: ما المانع أن نأخذ كلَّ فلسطين من هؤلاء الذين بلا شرف، بما أنّهم قبلوا بالتخلّي عن نصف وطنهم؟ كما لو قبل أحدهم تقاسم الزوجة!
وكان لي صديق كاتبٌ فرنسي يقول كلّما رأى خطأ في المجتمع: إنّه خطأ النُّخبة التي لم تقُم بواجبها...
نُخب تحارِب قوى المواجَهة، بما يعني أنّها في جبهة الأعداء
الآن، أتذكّر غزّة، وأتذكّر زيارتي لها في هذه اللحظة وهي تحترق. يعودني تلّ الهوى، وخان يونس، وصورة البنت الصغيرة التي قتلوا عائلتها على شاطئ غزّة وصور المعوقين، حيث زرت بيت صديقي باسم النبريص، شاطئ غزّة وقوارب الصيادين الفلسطينيّين المحاصَرين في البحر أيضاً، والمعرَّضين يومياً لاستفزازات قوارب حرس الحدود الإسرائيليّين ذات المُحرّكات القوية، والتي تظلّ تلفّ بسرعة حول قوارب الصيادين لترويع أصحابها...
ذهبتُ مع الصديق، لأُسمّه شاهين، إلى قبر الشيخ ياسين الذي قتلوه بصاروخ من السماء، وقتلوا حوالي سبعة أبرياء من حوله، وقالوا: خسائر جانبية، ما يعني لا يهمّ. لم يأت المصريون، كانوا مسكونين بالأيديولوجيا، وليس بالحقائق فوق الأرض. فعدوُّهم الأساسي هو "حماس"، لأنها لا تحمل نفس الأيديولوجيا! هكذا! وهُم مأدلجون بشكل هستيري.
تذكّرتُ حنة أرندت التي تعتبر الأيديولوجيا حمار الفلسفة. سألتُ إحدى هؤلاء المأدلَجين: إذا جاءك سمكري جيّد بأسعار جيّدة لإصلاح سيارتك، وكان إسلامياً، هل ترفضينه؟ وقبل أن أنهي، أجابت بهستيرية: لا أقبله.
بعد أشهر قليلة دفع هؤلاء الشباب ثمن غياب وعيهم باللحظة باهظاً. ذكّرني مرضُهم بمرض بعض من التونسيّين، مرض الأيديولوجيا والحداثة الزائفة التي تعني معاداة معتقدات وهوية وثقافة شعوبهم.
ظلَّ عملُهم الأساسي خلق نُخب مزيَّفة، نُخب أوصلت بلدانها إلى هذا القاع، نُخب موالية للاستعمار، وهي تعتقد نفسها حداثية وتقدُّمية وفي حقيقتها الواقعية نُخب تقوم بوظيفة تشويه الوعي وخلق وعي زائف يقبل السردية الغربية الاستعمارية المتخفّية بحداثة كاذبة، ويُحوّل النُّخَب إلى أداة استعمارية بدون وعي.
مسكونون بمرض الأيديولوجيا، وليس بالحقائق فوق الأرض
في المغرب العربي، ومن يوم جاء الكاردينال شارل لافيجيري Charles Lavigerie، بدأ العمل على تغيير الوعي والهوية، بل تنصير كثير من العرب. وكان العمل الكبير في الجزائر؛ حيث قام كثيرٌ من النُّخب بتغيير هويتهم، وكان جون عمروش وأخته طاووس عمروش مثالاً فاضحاً؛ حيث تحوّلا إلى فرنسيَّين كاثوليكيَّين.
وفي دولة الاستقلال، استجلب بورقيبة فرنسيّين لوضع برامج التعليم. كان الكاتب اليهودي الفرنسي روجي لابروس هو الذي أشرف على برامج تعليم أبناء التونسيّين، بما يعني أنّ أيديولوجيا التعليم الكولونيالي استمرّت في تونس مباشرةً بعد الاستقلال... واستمرّ تزييف الوعي، وهذا يشرح لك لغز هذا الكمّ الكبير من المحسوبين على المثقَّفين، والذي يتردّدون على الكيان الصهيوني.
كان عبد الوهاب المؤدّب، وهو كاتب تونسي باللغة الفرنسية عمل مع برنار هنري ليفي، كتب مقالاً مطوَّلاً في جريدة "لوموند" الفرنسية يُهاجم فيه "حماس"، والآخر، وهو أستاذ مدرّس في الجامعة التونسية، كتب في جريدة "لابريس" التونسية، وتُسمّى "برافدا" النظام البورقيبي يهاجم "حماس" ويقول: "حماس تمارس La pornographie البورنوغرافيا السياسية بمحاربة دولة ديمقراطية اسمها إسرائيل".
مديرة المكتبة الوطنية تُسافر، هي الأخرى، إلى الكيان وتحتضن مؤتمرات مشبوهة يشارك فيها أساتذة صهاينة وسينمائيون ومغنّون يصدحون باسم "بيبي نتنياهو" في إحدى مستوطنات غلاف غزّة، وقبلهم "جماعة آفاق" في الستّينيات، والتي رفضت في كرّاسها الأصفر اعتبارَ النضال الفلسطيني نضالاً تحرُّرياً.
هذه النُّخَب موجودةٌ في كلّ البلاد العربية، وهي لأنّها حداثية جدّاً وتقدُّمية جدّاً، تراها تحارب قوى المواجَهة وخاصّةً "حماس" و"حزب الله" اللبناني، بما يعني أنّها في جبهة الأعداء.
* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام