لا يستطيع المثقفون العرب، شأن غيرهم، أن يحيوا بثقافتهم وحدها. فعليهم أن يواجهوا الحاضر، وأن يواجهوا ثقافات الشعوب الأخرى. تأخذ هذه المواجهة أشكالاً عديدة، أعلاها المعرفة، أي ذلك التعاطف العميق الذي يقتضي حركة انفصال عن النفس واتصالٍ مع الآخر. يعني ذلك، من بين كثير من الأشياء، رؤية الذات خارج أهوائها وخارج الأيديولوجية، والتعايش مع الثقافة المختلفة من داخل حركتها العقلية، لغة، وإبداعاً، وحياة يومية.
غير أنّ المشهد المهيمن على مسرح هذا الآخر الغربي المختلف اليوم هو الحرب: حربٌ عسكرية، وحرب ثقافية - إعلامية. وفي ضوء ما يحدث من عدوان إسرائيلي على غزة، وما يحدث في الغرب من خطاب ثقافي وإعلامي، تبيّن أن ثقافة الآخر وخطابه، يتبعان سياسته، وهذا بدوره يعبّر عن تأزّمٍ إنساني ثقافي وحضاري، ذلك أن سياسة هذا الآخر تخون قيم الحرية والعدالة والديمقراطية التي يفترض أنه قام عليها، لا سيّما عندما تختلط وتتعثّر، حين تمنحه غطاء لإبادة شعب عبر منصاتها الإعلامية والثقافية.
وهذا بدوره خطابٌ لا يؤسس إلّا لنظرية الاستباحة، مبدأ، ولنظرية التسويغ، منهجاً. وهو، في العمق، منطقٌ استعماري إبادي، لا يقيم شأناً للقواعد الإنسانية أو ما يسمّى بالقانون الدولي، بل يحتقر الإنسان في صميم كينونته.
هذه الممارسة السياسية التي تقوم على الاستباحة العسكرية والتسويغ الإعلامي لا تختلف في الجوهر عن الفاشية، وهي تؤسس، بواسطة تقنياتها الحديثة، إعلامياً وعسكرياً، لوحشيات جديدة أشد خطراً وشراسة من كل ما عرفته البشرية من وحشيات تاريخية.