تقف هذه الزاوية مع شخصية ثقافية عربية في أسئلة حول انشغالاتها الإبداعية وجديدها وما تودّ مشاطرته مع قرّائها. "لحظات الوعي تأتي متأخّرة عن زمن الكتابة. هذا ما أكتشفه دائماً حين أتأمّل نصوصي السابقة"، يقول الروائي الجزائري لـ"العربي الجديد".
■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
- بعد عشر سنوات من كتابة روايتي الأُولى "سينما جاكوب"، أجدُني أحاول إعادةَ تمثُّل هذه التجربة بعين مختلفة، مُتجرّداً من كلّ إملاء. وفي الوقت نفسه، أُجرّب أن أُصلح الكثير من المشاكل التقنية التي واجهتُها سابقاً ككاتب. فلحظات الوعي تأتي متأخّرة عن زمن الكتابة. هذا ما أكتشفه دائماً عندما أتأمّل الكيفية التي بُنيَت بها التصوُّرات في نصوصي السابقة، أو زاوية الرؤية وعلاقتها ببُنية الرواية. لهذا أعود، في كلّ مرّة أثناء الاستراحات الطويلة التي آخذها من الكتابة، إلى نصوص عالمية وتراثية أُطالعها أحياناً مرّتين أو ثلاثاً، ثم أعاود التفكير في نصّ جديد وبرغبة أكبر في التجريب، من أجل إدراك الممكنات التي تمنحها الكتابة الروائية.
■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟
- آخر رواية صدرت لي هي "الديوان الإسبرطي" عن "دار ميم" سنة 2018. وما صدر بعدها كان إعادة طبع فقط. كتبتُ روايةً العام الماضي، وكانت نصّاً أكثر حرية من الناحية التقنية، ينزع إلى التجريب على المستويات البنيوية للنص الروائي. ليسَت لي رغبة في نشرها، أو لنقُل إنّها نصّ كُتب لإرضاء حاجة فنّية ذاتية. أحياناً، تبدو التقنية في عين الكاتب مثل لعبة، يسعى أن يجرّب نتائج الاحتمالات بتغيير خوارزميّاتها أو التعديل فيها حتى يتوهّم أنّه بلغ النصَّ أو الشكل المرتضى الموافق للحظة زمنية معينة، هذه اللحظة لا يلبث أن يتجاوزها في ظروف أُخرى، وهكذا دوليك... إذ تتحوّل الكتابة إلى حلقات ما إن تنتهي من واحدةٍ حتى تتورّط في التي تليها.
الثبات أخطرُ ما قد يواجهه الكاتب والإنسان بشكل عام
■ هل أنت راض عن إنتاجك ولماذا؟
- لم أرض يوماً عمّا أكتب، بل لا أكاد أعود إلى قراءة ما أكتب بعد الطبع. أجد صعوبة في ذلك، وأستغرب أحياناً حين أسمع كُتّاباً يُشيدون بأعمالهم، أو يحيلون إليها برؤية يقينية. الرضا مسألة نسبية ووقتية، تتغيّر بتغيُّر القراءات والتجارب، وحتى رؤية العالم. التحوُّل سمة إنسانية ولا يمكن عبور النهر مرّتين - بتعبير هيريقليطس قبل قرون. ما زلتُ مؤمناً بهذه الفكرة، أنت اليوم لستَ نفسك في الغد، وكلّ ما تعتقده نسبياً يمكن أن تتخلّى عنه عند أول تجربة حياتية أو كتاب تقرأه، ولهذا أعتقد أنّ الثبات هو أخطر ما قد يواجهه الكاتب أو الإنسان بشكلٍ عام.
■ لو قُيّض لك البدء من جديد، أيّ مسار كنت ستختار؟
- سأفضّل أن أكون قارئاً وفلّاحاً في الوقت نفسه؛ فالزراعة تُتيح لكَ ما لا يتيحه النص، هي تجربة فريدة وعميقة، وحلمي أن أغرس عدداً لا متناهياً من الأشجار، وأقف كلّ يوم عند حدود الغابة التي أوجدتها لأتأمّلها طويلاً. قد تبدو الفكرة مثالية أو ربما طوباوية، ولكنّها في الأخير تبقى رغبةً ذاتية على أمل أن تتحقّق في يوم ما.
■ ما هو التغيير الذي تنتظرنه أو تريده في العالم؟
- في التجربة الوجودية، إمّا أن تعتقد وإمّا أن تفكّر. يمنحك التفكير الحريّة المصحوبة بالقلق، بينما يتيح لك الاعتقاد مساحةً أكبر من الهدوء والركون إلى اليقين. انطلاقاً من هذه الرؤية، لا أنتظر كثيراً من العالم بقدر ما أنتظر من نفسي، وعلى رأي ابن عربي "الإنسان عالم صغير، والعالم إنسان كبير". أو على رأي الشيخ عبد الحق بن سبعين: "الإنسان في العالم والعالم كلّه متماثل. والمتماثل واحد مع مثله، فالإنسان والعالم واحد".
أستغرب حين يشيد كُتّاب بأعمالهم أو يحيلون إليها
■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
- وددتُ لو التقيت الأمير عبد القادر الجزائريَّ لأسباب كثيرة، لعلّ سبباً واحداً منها يكفي أن يجعله شخصية كثيفة ومتعالية. أوّلاً: قاد مقاومةً جزائريّة خالصة دامت سنوات ضدّ الاحتلال الفرنسي، وبأخلاق تكاد تكون مثالية. ثانياً: الدور العظيم الذي أدّاه في إنقاذ المسيحيّين بالشام. وثالثاً: حرصُه على طبع كتاب "الفتوحات المكّية" للمتصوّف العظيم ابن عربي. هذه الجوانب الثلاثة تجعلني أفكّر، بشكل دائم، في شخصية الأمير، معتقداً أنّه لم يُعتَنَ به بطريقة جدّية، إذ اقتُصر على الجوانب السياسية والنضالية، وأُهملت الجوانب الروحية والأخلاقية، والتي يمكن أن يُستفاد منها كثيراً في تأسيس مشروع حقيقي للشخصية الوطنية.
■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟
- في الحقيقة هما صديقان، وكلاهما متوفٍّ. الأول: أستاذ الفلسفة علي عرعور، الذي استفدتُ من ثقافته الموسوعية كثيراً، ترافقني مقولاتُه ووجهات نظره دائماً. كان يخاطب المستقبل، ويرى بعين بصيرة تُفلسف العالم ببساطة، في حين لم تكن الرؤية واضحةً لي منذ سنوات. أمّا الصديق الثاني فهو الأستاذ الراحل حميد ناصر خوجة؛ أستاذ الأدب الفرنسي. شكّل هو الآخر جزءاً من وعيي حول التعدّد الثقافي في الجزائر، وعرّفني على أسماء لها حضورها وبصمتها في الثقافة الجزائرية. رافقتُه في سنواته الأخيرة، فاكتشفتُ مثقّفاً مثالياً وإنساناً حقيقياً، ومتصوّفاً زاهداً في الأضواء. وبرحيله، أعتقد أنّ الثقافة خسرت الكثير من النقاء.
■ ماذا تقرأ الآن؟
- أمامي الآن كتاب "البطل بألف وجه" لـ جوزيف كامبل بترجمة حسين صقر، فقد صرتُ أكثر ميلاً إلى الأصول الأسطورية والفلسفية التأسيسية في الكتب المقدَّسة والنصوص الكلاسيكية، بقراءة المصادر الأصلية، أو ما كُتب من دراسات عنها.
■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
- في السنة الأخيرة، لا أسمع إلّا الأغاني الجزائرية، القديمة والحديثة، وأركّز أكثر على التراثية منها، تلك التي تحمل طابعاً ملحمياً، مثل "واد السيسبان" وقصّة "علقمة". ربّما هي محاولة للبحث في البنيات والأصول، وكيف تتحوّل الأسطورة العربية أو الدينية في الفضاء المحلّي الجزائري حين تمتزج بالمكوّن البربري، وكيف تستعيدها الذاكرة الشعبية لتُعيد صياغتها داخل الفضاء المكاني والزماني لها، كما يأخذ السماعُ الصوفيّ الجزائري، وخصوصاً الطابعُ الصحراوي، حيّزاً مُهمّاً من هذه التجربة التي أعكف عليها.
بطاقة
روائي وقاصٌّ جزائري من مواليد الجلفة عام 1985. صدرت له خمس رواياتٍ؛ هي: "سينما جاكوب" (2013)، و"سييرا دي مويرتي" (2015)، و"الدوائر والأبواب" (2017)، و"سفر أعمال المنسيّين" (2018)، و"الديوان الإسبرطي" (2018)، إضافةً إلى مجموعة قصصية بعنوان "مجاز السرو" (2015). حاز عدّة جوائز من بينها: "جائزة آسيا جبّار للرواية" (2015)، و"جائزة كتارا للرواية العربية" (2017)، و"الجائزة العالمية للرواية العربية" (2020).