بعد رياح عاصفة، استمرّ هبوبها أربعة أيام، ها هي تمطر. تمطر بغزارة وشراسة، كما لو أنّها تمتح من جحيم. لا بأس: فالمطر خير، وأفضل ألف مرة من البرد والريح والغبار. لقد أوشكتَ، اليومَ، على الوقوع على وجهك، وأنت تسير في شارع رابعة العدوية، في عكس اتّجاه الريح. إنّها ريحٌ مجنونة بحقّ. ريحٌ ولا رياح تسونامي الشهيرة تاريخياً. اللهم الطفْ بنا ونجّنا من عصف الشرّير.
■■■
مرّة واحدة تمنيت خلالها لو أنّي غير مصاب بمرض السكري: إذ كنت أتجوّل في سوق خان الزيت ورأيت قُطّيناً ومَلْبَناً، على بسطة فلاحة من بيت لحم، فتمنّيت لو يعود الزمن الذهبي الجميل، أيّامَ كنتُ بلا هذا المرض، فكنتُ أذهب مع أمّي إلى سوق الأربعاء بخان يونس، فقط من أجل أن تشتري لي نصف كيلو قُطّين مع نصف كيلو ملْبَن، فألتهم الكيلو الكامل قبل عودتنا إلى البيت. آه لو تعود تلك الأيام، فآكل الآن رطلاً من هذه النعمة اللذيذة. إنّها ألذّ نعمة خلقها الله على الإطلاق. وليس هذا القول مني مبالغةً، فلا تنسوا أنّ صاحبه شِيْف حلويّات غربيّة من الطراز الأول. ولقد أكلَ جميع أنواعها التي تخطر لكم على بال والتي لا تخطر. ومع هذا: أحنّ إلى مذاق وطعم القُطّين مع المَلْبَن، بصفته أهمّ مذاق في طفولتي السعيدة.
■■■
آه يا ظهري: بدأ البرد يفعل مفعوله مع ظهري الذي بلا حماية خلفيّة. إنّه مَغْصٌ مرعبٌ ناحية الكِليتيْن: مغصٌ ولا مغص الوالدات. فلأقمْ سريعاً ولألبدْ تحت الفراش، قبل أن أشاهد الموت بأمّ عينيّ. بأمّ عينيّ مثلما رأت فيليتسيا لانغر بأمّ عينيها. يا ترى وين أيام هذه المحامية الشجاعة؟ لم نعد نسمع عنها، والأغلب أنّها سافرت وغادرت المستعمرة المسماة "إسرائيل". فلو كانت هنا لكنّا نسمع عن نشاطها ومواقفها اللافتة. عموماً، السلام لها حيثما تكون، فهي امرأة ولا كلّ الرجال: سلامٌ لكِ وعليكِ يا أختي ويا رفيقتي فيليتسيا. فقد دافعتِ عنّا وعن قضايانا العادلة النبيلة، أكثر ممّا دافع كِبار رجال السُّلطة، هؤلاء الذين معظمهم، من أسف، كبارُ مناضلين مزعومين.
■■■
الكتابة بلا حافز، كمن يستخرجُ لوبياء من بندورة. أكتب الآن بلا حافز، وما زلتُ أمارس هذا التضليل. إنّه شيءٌ يمسّ أخلاقي مع الكتابة. لا بأس: غيري يمسّ أموال الفقراء. متحمّلهاش يا باسم أكثر ممّا تحتمل. واصلْ يا رفيق. فلو انتظرتَ الحافز، فسوف يطول الانتظار. و... عصفورٌ في اليد ولا عشرة على غصنِ المجهول. والمهمّ والأهمّ أن تكتب ولا تتوسّل الحافزَ يا رفيق. معظم، بل كل الكتّاب يفعلونها. يلدون ولادةً قيصرية. إذِ انتهى زمن الإلهام وهدايا السماء مع بداية زمن العولمة. بل حتّى قبل ذلك بعقود وربّما قرون. والحكاية وما فيها أنّنا متخلّفون عن مواكبة جديد العِلم فقط. ما علينا.
■■■
خرجتُ وعدتُ، فالطقس مريعٌ بكل ما تعني الكلمة، ولم أكن أتصوّر، وأنا داخل الفندق، أنّه على هذا النحو المرعب! الرياح عاصفة وفي الدرجة صفر على الأغلب، وهو ما لم نتعوّد عليه، هناك في قطاع غزة، حيث يميل الشتاء غالباً إلى الاعتدال والدفء. جاءني صديقي بسيّارته، وخرجنا إلى مشواري ثم عرّجنا على بيته، فراجعتُ مخطوطته سريعاً، وشربتُ الشاي، واستأذنت. لم يوصلني بسيارته، حيث أدخلها في الكراج، فاضطررت إلى المشي، من بيته إلى الفندق، أي حوالي نصف الكيلومتر، مواجهاً الريح والصقيع وعصفات الهواء. وما أن وصلتُ إلى الفندق، حتى لبدتُ فوراً في الفراش، ولولا رغبتي في الكتابة، لما غادرته إلى غرفة الكمبيوتر الباردة.
■■■
رأيتُ في باب الواد، بالقرب من "مدخل الناظر"، أشخاصاً من المارّة القليلين، وكأنهم أشباح. لكأنّني أرى مقطعاً من فيلم سينما. إنّما للحقّ: أعجبني ذلك، واستمتعت به بقدر ما هو مُقدّر لبشرٍ فان.
■■■
جلنا بالسيارة، صديقي وأنا، معظم أحياء سلوان، فلم نرَ غير المطر والحُفَر المنتشرة على طول الأسفلت. لم نر امرأةً واحدةً، ورأينا، يا للغرابة، جَمَلاً يجرّه بدويٌ هارب.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا، والنصّ من يومياته في القدس المحتلة عام 2009