كثيرة هي الصور التي اشتهر بها المصوّر التونسي جاك بيريز (1932)، غير أن "امرأة من شبيكة" تعد من أهمها، حتى أنها باتت أيقونة أعماله. التقطت الصورة في قرية الشبيكة، على مشارف مدينة القيروان، التي ينحدر منها الفنان. وبين أطر هذه الصورة الأربع، تكمن خلاصة عشق بيريز للمكان، الذي يأخذ حيزاً في أعماله.
صورة "راقصة الكافيشانتا والأسد"، التي تعد أيضاً من أكثر أعمال بيريز شهرة، تتقاطع مع "امرأة من شبيكة" في كون موضوعها امرأة، وفي فيض دلالاتها بالمكان. جالت هذه الصورة معارض كبرى، من بينها ذلك الذي نظمه المصمّم الشهير كارل لاغرفيلد، بداية السبعينيات، لدعم أعمال "المنظمة الدولية لحقوق الإنسان". يقول بيريز عن هذه الصورة إنه لو لم يكن من رواد قاعات الأفراح والحفلات في باب سويقة في العاصمة تونس، لما أمكنه فهم نبض هذه الأمكنة ومعرفة نفسية مرتاديها، التي تنتمي إليهم المرأة في الصورة. "الإلمام بحيثيات الموضوع والتشبّع بتفاصيله يقودان إلى صور أجمل ويساعدان على تبئير الضوء في زوايا نظر لم تكن متوقعة".
"امرأة من شبيكة"، و"راقصة الكافيشانتا والأسد" هما نتاج ما يسمّيه جاك بيريز بـ"الشدّ الإيجابي"؛ أي أن الفنان يراقب هدف التصوير عن قرب، منتظراً اللحظة الخاطفة. فاللقطة، هنا، ترتسم في الذهن قبل أن تشتغل آلة التصوير لتلتقطها. الصدفة، إذاً، لا تصنع كل شيء، بالنسبة إلى المصوّر، إذ ثمة عملية مداورة للحصول على المنظر المناسب. وقد يتوقف عن التصوير عندما تكون الشخوص في ما حوله متضايقة أو متوترة، لأن الصورة الجيدة يلزمها الكثير من الوقت والتفكّر كي تنضج وتصبح خاطفة للبصر، بل لتبدو وكأنها تُرى للمرة الأولى.
الفنان الذي جمعته صداقة قوية بصاحب "نوبل"، ألبير كامو، أخذته إلى عوالم الكاميرا صورة لعميد المصوّرين التونسيين عبد الحميد كاهية (1929 ـ 2008)، تُظهر مشهداً فريداً لفلاحين يزرعون الأرض وهم حفاة. "بفضل هذه الصورة، فهمت معنى الصورة والدلالات العميقة التي يمكن أن تحملها"، يقول، في إشارة إلى ما يمكن أن يقوله أي عمل انطلاقاً من مشاهدته/ قراءته الثانية، أو النظرة تلي "الوهلة الأولى".
تجربة بيريز راسخة في تاريخ الصورة الفنية التونسية. وهو، إلى جانب حساسيته وجمالية أعماله المرهفة، سبّاق في استخدام مقاييس مصغّرة لسحب الصور بعد تحميضها وفق الطريقة التقليدية، أي ما يعرف بـ"الفيلم الأرجنتيك". الفنان الذي يفضل آلات التصوير البسيطة وصغيرة الحجم على "تلك الضخمة وذات العدسات الكبيرة المعيقة للحركة"؛ يعد أول المصورين الذين ركزوا مبكّراً على حِرَف ومهن تونسية مهملة في أعمالهم. ذلك أنه استعادها في الكاتالوجات التي كان ينجزها لصالح النزُل والبنوك التي تعامل معها، بينما كانت تقتصر الصور الدعائية على كوادر لأفنية المؤسسات وواجهاتها.
في حديثه مع "العربي الجديد"، يقول بيريز، بدعابة، إن عمله في التصوير يشعره بالحافز والحماس ذاتهما اللذين يرافقان الملاكم على الحلبة، أو الممثل على خشبة المسرح. رغم ذلك، فإن الرجل الذي دخل العقد التاسع من عمره، يحبّذ الإقامة في الظل، مفضلاً ضوء غرفة التحميض على الأضواء الأخرى. يبدو، بذلك، أشبه بزاهد وناسك لا يغادر صومعته؛ إذ يلازم مكتبته طيلة الوقت تقريباً، موزعاً ساعات عمله بين ترتيب أرشيفه والإعداد لثلاثة أعمال جديدة تصدر قريباً: كتاب مصوّر يضم صوره الجديدة، وكتابان مصوّران حول مسيرة الفنان التشكيلي والمستشرق الروسي ألكسندر روبوتزوف (1884 ـ 1949)، الذي حل في تونس سنة 1914، ليفتتن بالبلد، ويقرر الاستقرار فيه بشكل نهائي. ومن المنتظر أن تصدر هذه الكتب المصورة عن "دار كثبان" التي أسّسها الفنان.