بعد صراع مع المرض، ومسيرة إبداعية وفكرية تشابك فيها الشعر والسرد مع الفكر والفلسفة، أثمرت العديد من الأعمال التي جعلته في طليعة الكتاب المغاربيين الذين كتبوا باللغة الفرنسية؛ رحل، أمس، الكاتب والمفكر التونسي عبد الوهاب المؤدب (1946 – 2014).
ولد المؤدب في محيطٍ تونسي يتهيأ لانتزاع استقلاله عن الحماية الفرنسية. وفي عام 1967، التحق بجامعة "السوربون" لدراسة الأدب الفرنسي. وبعد أربع سنوات من الدراسة الأكاديمية، بدأ يصدر نصوصه الشعرية والروائية التي انخرط من خلالها في المدرسة المغاربية التي تتبنى اللغة الفرنسية كلغة تواصل، لكنها تحافظ على الروح العربية والإسلامية والأفريقية؛ وهو التوجّه الذي ميّزها عما يكتبه الفرنسيون أنفسهم.
ساهم صاحب "قبر ابن عربي" في ميلاد مشروع فكري مغاربي، من أبرز أركانه محمد أركون ومالك شبل ويوسف الصدّيق. ظلّ المؤدّب يرى سر عبقرية المشروع في تشابك أبعاده الحضارية. فالمفكّر كان يدعو إلى الحوار مع الذات، بقصد اكتشاف قابليتها للتفتح على الجانب الحضاري من الآخر، قبل الحوار معه؛ وإلا وقع العرب، كما حدث لاحقاً، إما في مستنقع تضخم الأنا وتقوقعها على مقولاتها، أو في مستنقع التغريب والتبرم من الهوية المحلية.
ولعل المؤدب كان من المفكرين السباقين إلى التحذير من ظاهرة الأصولية، مفكّكاً خطابها القائم على الأحادية وإلغاء المخالفين له، حتى وإن كانوا من أبناء المكان الواحد. وتوسّع في شرح وجهة نظره هذه من خلال كتابه "مرض العالم الإسلامي".
إذ أشار إلى أن هذا الخطاب هو ثمرة طبيعية لتزاوج الانغلاق السياسي الذي اتسمت به الدول العربية منذ استقلالاتها الوطنية، مع الخطاب اللاهوتي الذي بات مهيمناً في المؤسسات الدينية، وهو ما عرفته الديانة المسيحية من قبل، لكنها استطاعت أن تنقي نفسها من خلال مراجعات نقدية عميقة، وذلك ما لم يحصل في المشهد الإسلامي، بحكم أن السلطتين الدينية والسياسية تواطأتا على نبذ الروح النقدية، وربطها بالخروج عن الجماعة.
كانت الرسومات المسيئة للنبي محمّد (ص)، فرصة المؤدب كي يطلق نقده للمجتمع الإسلامي والغرب دفعةً واحدة. وقد عُرفت مداخلاته آنذاك بـ"النقد المزدوج". فمن جهةٍ، أبدى امتعاضه من انفعالية المسلمين الذين كانوا مُطالبين بالرزانة. وفي المقابل، فضح بؤس الآخر الذي بات يتناقض مع حداثته وديمقراطيته ودعواته إلى احترام الحضارات والخصوصيات مهما كان شكلها ولونها.
في هذا السياق، قارب صاحب "أوهام الإسلام السياسي" ظاهرة "الانتحاريين" في العالم العربي، خصوصاً وأنها، من وجهة نظرة، لا تمت للتراث الإسلامي بصلة، حتى في الوقت الذي اشتدّ فيه العنف على المشهد العربي، مثلما حدث في تجربتي القرامطة والحشاشين، واعتبرها "تعابير توتاليتارية حديثة" تستقي فلسفتها من الحركة الفوضوية والعدمية الروسية.
حُكْم المؤدب على "الانتحاريين" لم يشمل محمد البوعزيزي، الذي كان إقدامه على حرق نفسه مقدمة لاشتعال الثورة في تونس عام 2011، بل رأى في هذه ذلك "تسارعاً مدهشاً ومفعماً بالبراءة والعفوية لحركة التاريخ".
لم يكن تعامل المؤدب مع المثقفين الفرنسيين الذين عاش بينهم وكتب بلغتهم انبهارياً، بل قائماً على النقد في حالات كثيرة، منها تعاملهم مع الثورة التونسية، إذ قال: "استمرارية صمت المثقفين الفرنسيين تجاه ثورة الياسمين لا تغتفر، كيف يمكن تفسير هذا الصمت؟ ما فحواه وما دلالاته؟ هل هو ناتج عن اللامبالاة بتونس وشعبها؟ أم أنه لا يزال يعبر عن تقسيم العالم إلى مركز وأطراف تابعة؟".
هذه الروح المستقلة حافظ عليها المؤدب حتى مع المثقفين العرب والأمازيغ، فانتقد طارق رمضان في مفهومه للحداثة، داعياً إياه إلى القطع أكثر مع الماضي، ليس بوصفه ذاكرة بل انتماء؛ ذلك أن الحداثة، بحسب المؤدب، تقتضي خيانة هذا الماضي لصالح المستقبل، أما المثقفون الأمازيغيون في المغرب والجزائر، فدعاهم إلى ترك السياسة جانباً، والانخراط في حركة علمية وثقافية تعطي للغتهم حضوراً مختلفاً "إذا أردتم أن تصبح لغتكم معترفاً بها، عليكم أن تقدموا لنا كتباً كبيرة".