غادروا سوريا، لكن البلدان، كما هو معروف، لا تغادر أصحابها. تحوّلات شتّى طرأت على مسيرة حياتهم أو أصبحت جزءاً من الماضي كلقب العائلة الأصلي "عبد النور" الذي أصبح "أبنور" على لسان الأرجنتينيين. لكن أبناء العائلة سيصحِّحون لك لقب عائلتهم حينما يعلمون أنك عربي.
فيفيانا عبد النور، شاعرة أرجنتينية سورية ولدت عام 1964 في بوينس آيرس. ومع أنها ليست من المقيمين في الماضي؛ إلا أنها تعتبر حكايات وقصص العائلة مرجعاً مهماً في تكوينها الأدبي والإبداعي وإن لم يكن بصورة مباشرة.
ترغب عبد النور في تصديق ما ترويه نساء العائلة المُسنَّات والحكيمات كما تصفهن. أنجبن كثيراً من الأطفال الذكور وتمكّنّ من رعايتهم وحمايتهم على مدى سنين طويلة في فترة كان العالم العربي فيها يمر بمحن وأزمات كثيرة تماماً كما يحدث اليوم. لقد استطاعت الجدة الكبرى سارة غيور مع زوجها سيسيليو عبد النور أن يصلا الأرجنتين مهاجريْن من قرية قريبة من دمشق عام 1911.
سارة التي لم تكن تتجاوز العشرين عاماً حينها كانت ابنة بائع سجّاد عجمي وكانت تفتخر دوماً أنها استطاعت التجوّل في القارات الخمس مع أمها وهما تبيعان السجاد. فقد خرجتا بنفسيْهما للعمل بعد أن انتقل الأبناء الذكور لمدينة ساو باولو في البرازيل وهناك حملوا معهم التجارة ذاتها. أما عن المبالغة في مسألة "القارات الخمس" فيبدو أنها تروق للشاعرة عبد النور التي تجد في كلمتيْ "القارات الخمس" روحاً مغامرة ونَفساً سوريالياً تصرُّ على تصديقه.
يُحكى أيضاً أن الجد سيسيليو كان يعمل في الشرطة حين فرَّ منه سجينٌ كان السبب الأساسي لمغادرته سوريا. فقد وُضع أمام خيار أن يُعيده إلى السجن أو أن يقضي فترة العقوبة المتبقيّة للسجين. لا أحد يعرف مصير ذلك السجين الذي غيَّر قدر العائلة جميعها، لكن سيسيليو هرب مع سارة إلى لبنان كي يتوجهوا بعدها إلى البرازيل حيث كان إخوتها بانتظارها.
لكن القدر سيلعب لعبة أخرى هذه المرة مستخدماً حقيبة سفر بدل السجين الهارب. ولأنها (الحقيبة) لم توضع في مكانها الصحيح فقد توقّفوا في بوينس آيرس في الأرجنتين على أمل الذهاب إلى ساو باولو لاحقاً، لكن "اللاعودة" كانت مصير العائلة، فقد هربت السفينة من أنظارهما كهروب السجين وهروبهما، الفرق أنهما كانا يعرفان مصيرها المتجه لساو باولو، لكنهما بالتأكيد كانا يجهلان مصيرهما.
لم يكن في استقبال سيسيليو وسارة إخوة أو محلات لبيع السجاد، فوجد سيسيليو نفسه عامل نظافة في بوينس آيرس، بينما اعتنت سارة بأولادها الثمانية الذين تيتّموا باكراً حين فارق سيسيليو الحياة تاركاً لسارة مهمة الاعتناء بالأولاد في قارة لم تخطر على بالها أبداً ولا حتى أثناء تجوالها لبيع السجاد.
حِداد سارة على زوجها استمرّ ثلاثين عاماً، كان أبناؤها وأحفادها يرونها دوماً بشعر مغطى حين يزورونها في البيت حيث اعتادت أن تحضِّر لهم الأطعمة الشامية كالكبّة والمربيّات بأنواعها. ومع أنها كانت تشاركهم أحياناً رقص الدبكة في منزلها، إذ كانت تبرع بالحفاظ على توازن جسدها حين تحمل فوق رأسها كأسا زجاجية توقعها عمداً في نهاية الرقصة حتّى تسمع ضجيج الزجاح على الأرض، إلا أنها ومنذ وفاة زوجها لم تحضر حفلاً قط.
ربما كان لدى الجدّة الكبرى حدساً استثنائياً حين قرَّرت الخروج من بيتها لزيارة الحفيدة الجديدة التي ستكون لها روح الجدّة المغامرة وستكتب القصائد التي لم تكتبها سارة، التي كانت بحد ذاتها قصيدة كما تراها حفيدتها الشاعرة اليوم.
ولسبب لا تعرفه عبد النور نفسها فقد وقَّعت قصائدها مستخدمة اسم جدتها "سارة غيور" لسنوات طويلة وعن هذا تقول: "اسمها يتبعني حتى يومنا هذا، وأراه جميلا. أفترض أن كل تاريخي الشخصي الذي عشته أو سمعته أو الذي خلقهُ الآخرون يرفد تجربتي الشعرية".
بدأت عبد النور كتابة الشعر في سن مبكرة حين عثرت على قصيدة موقعة باسم أمها كانت قد كتبتها في فترة مراهقتها، كما تأثرت بأشعار الشاعرة الأرجنتينية ألفونسينا ستورني التي قضت منتحرة.
لا تنتمي نصوص عبد النور إلى الأدب النسوي فهي تقول عن نفسها: "أنا امرأة تكتب، نعم، لكني أحياناً أكون رجلاً. وأحياناً أكون حيواني الأليف، ومرات أخرى أكون نهراً، لا أشعر أنني أكتب أدباً نسوياً؛ إذ يبدو لي المصطلح كبطاقة تعريف بكتاب. أعتقد أن الكلمة هي لغة بحدِّ ذاتها وهي أكثر أهمية وشمولية وتتجاوز -من حسن الحظ- مسألة الجندر والثيمة. مع هذا هناك بعض الثيمات المحددة التي تنشأ وتفرض نفسها وهناك نساء يحملنها بكل تفوق لكن ليس أنا... لدي موقف كإنسان، ليس لدي شيء ضد الرجل، على الأقل التجارب التي مررت بها لم تكن سيئة".
وعن كتابتها توضّح عبد النور أنها تستمتع بمنظر الحروف وهي تظهر وتختفي على الورقة البيضاء ثم تصير كلمات، وتتحول إلى موسيقى أو برق أو عواء، فهي تحب هذا الصوت الإنساني المألوف الذي يصلها وينقذها.